فيينا نحو الاتفاق عاجلاً أو آجلاً
ناصر قنديل
– تمر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بأسوأ ظروف مرت على إدارة تسلمت البيض الأبيض، ففي الوقت الذي تعاني الخزانة الأميركية من أزمة ديون تتجاوز الخطوط الحمراء، وتضخم مالي تتآكل معه القدرة الشرائية للأميركيين أمام إرتفاعات الأسعار، يسود ركود اقتصادي تزيده كورونا تفاقماً، وتتعقد المنافسة التجارية مع الصين في غير صالح الاقتصاد الأميركي، بينما المواجهة التي فتحتها إدارة بايدن مع روسيا حول أوكرانيا، في ظرف تدرك الإدارة أنها لا تستطيع الذهاب إلى الخيار العسكري، وأن العقوبات التي تلوح بها لم تعد تجد نفعاً مع الرئيس الروسي، بل أن موسكو حولت هذا التحدي إلى فرصة، وفتحت الباب لطرح مطالبها المزمنة مقابل تعهداتها تجاه أوكرانيا، لجهة طلب تعهدات حلف الناتو بعدم ضم دول شرق أوروبا إلى صفوفه، بينما يخرج إلى العلن حلف صيني- روسي سياسي عسكري اقتصادي، أول مخرجاته قرار بكسر حصرية الدولار في التعامل التجاري، وفي ظل هذه الظروف الشديدة التعقيد تخوض واشنطن مفاوضات أشد تعقيداً مع إيران حول ملفها النووي، الذي انسحبت منه أميركا وتدفع الثمن السياسي والقانوني لانسحابها أمام إيران التي نجحت بإثبات إلتزامها لسنتين، وعندما خرجت عن بعض الإلتزامات نجحت بتوظيفها لتحسين وضعها النووي أضعافاً مضاعفة، بينما لم ينفع الانسحاب أميركا بشيء.
– احتاجت واشنطن لوقت كي تستوعب أنها الطرف الأضعف في المفاوضات، كما احتاج شركاؤها الأوروبيون، فقد بدأ التفاوض وفي العقل الغربي أن مجرد التلويح لإيران بفرص العودة إلى الاتفاق سيكون كافياً لتتلقف إيران الأمر بالإستعداد لوقف اجراءاتها من خارج الاتفاق، ويدخل التفاوض إلى نوعية العقوبات التي يمكن رفعها، كما توهم الأميركيون والأوروبيون أن ما تم خلال فترة الانسحاب الأميركي من الاتفاق وما رافقه من عقوبات حقق الضغط اللازم على إيران، أي أنه أنضجها لقبول ما لم يكن مقبولاً عندها من قبل، ولذلك يمكن القول إن ما مر من وقت التفاوض كانت مهمته من وجهة نظر الوفد الإيراني إفهام الأميركيين والأوروبيين بوضوح أنهم أصحاب الحاجة الأصلية للعودة إلى الاتفاق، وأن إيران تأقلمت مع العقوبات، وأنهم لا يملكون بدائل للاتفاق بخلاف إيران التي تملك خيار المضي ببرنامجها النووي إلى لحظة الرعب النووية للغرب، وأنها بعدما تخلصت من العقوبات الأممية باتت طرفاً في حلف مع روسيا والصين يضمن لها عدم عودة هذه العقوبات، وأنها اقتصادياً تخطت الكثير من عقد العقوبات أمام المتاجرة قبل اتفاقها الاستراتيجي مع الصين فكيف بعده.
– ما جرى في اليومين الأخيرين يقول إن واشنطن والعواصم الأوروبية بدأوا يلامسون الواقع بصورة أفضل من أوهام العظمة التي دخلوا التفاوض على أساسها، لكنهم لم يصلوا بعد إلى اللحظة التي تصنع الاتفاق، لكن إعتمادهم أسلوب تبادل الأوراق مع الوفد الإيراني المحترف والممسك جيداً بملفاته، سواء في ملف العقوبات بالتفاصيل أو الملف النووي بأشد التفاصيل دقة، يقول إن الإقرار بالحاجة للتعامل بجدية مع توازن القوى الموضوعي المحيط بالتفاوض بعقلية السعي لتسريع التفاوض وبلوغ النتيجة الايجابية، قد بدأ، لكن واشنطن تواجه مشكلتين خطيرتين، الأولى حالة حلفائها الاقليميين وخصوصاً السعودية و”إسرائيل”، وعجزهما عن التأقلم بسهولة مع إتفاق تقبل به إيران، وينظر إليها كرضوخ أميركي للشروط الإيرانية، والثانية كيفية تقديم الضمانات التي تطلبها إيران مقابل خطر الانسحاب الأميركي مجدداً من الاتفاق، ومصير أجهزة الطرد المركزي المتطورة التي تم تركيبها وكميات اليورانيوم التي تم تخصيبها، واصرار إيران على اعتبار الحفاظ عليها ضمانة موازية بديلة.
المفاوضات الدائرة في فيينا، بكل ما يرافقها ويحيط بها، سترسم حكماً مشهد الشرق الجديد، لكنها ستضع رؤوس الجسور لرؤية مشهد عالمي جديد، والوقت الذي تستهلكه المفاوضات ليس وقتاً ضائعاً، بل هو التعبير عن السياق اللازم لترسيم التوازنات التي ستنتج منها هذه التحولات.