بعدما صرنا دولة فاشلة: أقصى الممكن وقف الانهيار والحدّ من الخسائر…
د. عصام نعمان*
لنعترف دونما مواربة: نحن صرنا دولة فاشلة. قبلنا صارت مثلنا أو كادت دول عربية وأخرى مجاورة عانت انهيارات مالية واقتصادية واجتماعية هدّدت كياناتها بالتداعي والتفكك. لعلّ أشدّها معاناة العراق وسورية والأردن، ومن حولها مصر وتركيا و”إسرائيل”.
من المفارقات اللافتة في الزمن الرديء أنّ دولاً كبرى مأزومة إنبرت لمعالجة أزمات دول فاشلة ما ذكّرنا بالمثل القائل: طبيب يداوي الناس وهو عليل. أبرز تلك الدول الولايات المتحدة المرشحة لمعاناة موجة تضخم قاسية نتيجةَ إقرار الكونغرس أخيراً قانوناً يقضي برفع سقف الدين العام الأميركي بضع مليارات من الدولارات. مع ذلك ينبري البيت الأبيض الى إطــلاق موقف قديم ـ جديد مفاده انه “ينسّق مع فرنسا بشأن لبنان”. كيف؟ “بفرض عقوبات على السياسيين الفاشلين (…) لأننا لا نريد رؤية دولة فاشلة في الشرق الأوسط، وهناك مؤشرات على انّ لبنان يسير نحو الفشل”. البيت الأبيض لم يقل، بطبيعة الحال، انّ معظم هؤلاء السياسيين الفاشلين الذين يتوعّدهم بعقوبات هم من حلفائه القدامى والجدد.
بالتزامن مع تهديدات البيت الأبيض، انطلق صوتٌ من نيويورك أكثر واقعيةً ومرونة. إنه صوت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش متوجهاً الى اللبنانيين فور وصوله الى بيروت بقوله: “يساورني بالغ القلق إزاء المحن التي تواجهونها اليوم. فقد أزهق انفجار مرفأ بيروت المروّع أرواحاً عزيزة وأسفر عن إصابة حوالي سبعة الآف شخص وتدمير آلاف البيوت. وانا أعلم انّ اللبنانيين يريدون إجابات عن تساؤلات، وأسمع مطالبهم بجلاء الحقيقة وإحقاق العدالة”. ولعلّ أهمّ ما ركّز عليه قوله “إنّ إيجاد الحلول الدائمة لا يمكن ان يأتي إلاّ من قلب لبنان (…) لإعادته الى مساره الصحيح”. كيف؟ “ببذل الجهود من أجل تعزيز المساءلة والشفافية واحتثاث الفساد”.
حسناً، ممن ينتظر غوتيريش “بذل الجهود من أجل تعزيز المساءلة والشفافية واجتثاث الفساد” وكيف؟ يجيب: “من الضروري ان يضع القادةُ الشعبَ محط اهتمامهم وان ينفذوا الإصلاحات اللازمة”. هكذا يعود بنا غوتيريش الى التماس المداواة من أطباء معلولين. أليس القادة الذين يطالب غوتيريش بأن “ينفّذوا الإصلاحات اللازمة” هم أنفسهم مهندسو الفساد والمستفيدون منه منذ عقود وسنوات؟
الحقيقة انّ ما يشكو منه لبنان هو نفسه ما تشكو منه سائر الدول العربية والإسلامية المأزومة في غرب آسيا: مجتمعات ذات تركيبة تعدّدية، يحكمها زعماء طوائف ومذاهب ومشارب، مدنيون وعسكريون متجذرون ومتعطشون الى السلطة، ضالعون في الفساد، ومصرّون على ان يكونوا رجال الأزمان كلها، جيّدها وسيئها، يحكمون ولا يخضعون لأيّ محاسبة، فهم المذنبون وهم المصلحون، وفيهم يتعايش الثواب والعقاب الى أبد الآبدين…
هنا ينهض السؤال الخالد: ما العمل؟
يجيب المواطنون الأنقياء المخلصون، قياديينَ ونقابيين ومهنيين ومثقفين ملتزمين قضية الوطن والشعب: لا يجوز ان نيأس او نتخاذل. يجب ان ننهض ونتصدّى ونقاوم بكلّ ما أوتينا من قدرات. نحن معنيون وجودياً بما يعانيه شعبنا. نحن معنيون لأنّ وجودنا ومصيرنا في خطر التبدّد والزوال.
كلام جميل ومنطقي. لكنه قديم ومتقادم وبقي مجرد نيّات طيّبة وأمنيات مشروعة، ولم يقترن بمناهج وآليات ومبادرات عملية ونَفَس طويل وتصميم على الإنجاز. آفة العمل الوطني السياسي عندنا قصورٌ مزمن عن الارتفاع فوق الأنانيات الى مستوى الأخطار والتحديات التي تحيق بالأمة بغية إنجاب وتطوير أطر وجبهات للتنسيق والتعاون والتكامل والفعل المجزي.
ليس المقصود بهذا الكلام تثبيط العزائم بل شحذها وتحفيزها وتصويب مسارها وتفعيل نشاطها. الحاكمون الفاسدون موحدّون دائماً بمصالحهم فيما الثائرون والمعارضون منقسمون دائماً باختلاف مشاربهم وأفكارهم. أما آن الأوان، إزاء ضخامة التحديات ومخاطرها، كي يعمل طلاّب التغيير والإصلاح بلا كلل للتوافق على برنامج مرحلي للحدّ الأدنى يتضمّن الأولويات الاكثر ضرورة وإلحاحاً في المرحلة الراهنة، والأنشطة الشعبية الأكثر فعالية في سياق التصدي للقيادات والقوى السياسية والاقتصادية الفاسدة، والتشديد تالياً على مطلب ملحّ، ضروري، وواقعي: وقف الانهيار والحدّ من الخسائر.
أرى نتيجةَ دراسةٍ معمّقة لحال البلدان العربية المأزومة، شارك فيها مفكرون وقياديون ملتزمون قضايا الشعب والوطن، انّ المطلوب والممكن في المرحلة الراهنة، خصوصاً في لبنان، قيام تحالف عريض بين القوى المنادية بالإنقاذ والتغيير والعاملة بجدّية من أجلهما، لتدارس الأوضاع القائمة بغية التوافق على تشخيصٍ موحّد لها، وفي ضوئه يُصار الى تحديد الأولويات الأكثر ضرورةً وإلحاحاً، ومباشرة فعاليات شعبية متواصلة وعابرة للمناطق والطوائف والمواقع بلا هوادة ضدّ نظام المحاصصة الطائفية ومنظومته الحاكمة بكلّ تلاوينها بغية إضعافها وإكراهها ـ ولو طال الزمن ـ على التراجع والانكفاء والتسليم، ولو تدريجاً، بالإصلاحات الجذرية التي تنادي بها غالبية الشعب اللبناني.
صحيح انّ التوافق الوطني الجامع صعب التحقيق في المجتمعات التعددية، ولبنان واحد منها، لكنه ليس مستحيلاً ولا بأس في ان يستغرق ذلك جيلاً او جيلين لتمكين القوى الحيّة خلالها من تكوين ثقافة وطنية وقواسم مشتركة لشعبنا نابعة من الجوانب الثرّة في تراثه، والصبوات والمصالح المشروعة في حاضره، والاغتناء بالإنجازات الحضارية المتحققة تحت كلّ كوكب.
التحديات كثيرة والصراع طويل ما يتطلّب أبطالاً ومناضلين وشجاعةً ومصابرة، وقد آن الأوان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ