في اليوم العالمي للّغة العربية سورية مهدها ومنشأ أبجديتها
د. هاشم حسين*
الثامن عشر من كانون الأول هو اليوم العالمي للّغة العربية، يحتفل فيه الناطقون بالضاد ويتشاركون مع هذا العالم الواسع بلغتهم، ثقافتهم وحضارتهم وتاريخهم الإنساني الطويل.
إلا أنّ هذا اليوم بالنسبة إلينا كسوريين ليس مجرد يوم احتفالي عادي يمرّ مرور الكرام، بل هو يوم تكريس انطلاقة الحرف الذي مدّن الإنسانية جمعاء وأخرجها من عهود الظلام الأولى إلى المدنية الأولى، التي نشأت على ضفافها كلّ الحضارات والثقافات كواحدة يرتكز عليها العالم الإنساني بطبيعته الحالية وما قدّمت له عبر التاريخ من اشتراك فاعل في الرقيّ والتقدّم على كافة المستويات.
الأمة السورية هي الأرض الخصبة التي انجبلت فيها المعارف والعلوم بجبلة الإنسان السوري، الذي أبحر في كلّ اتجاه حتى وسعت أقدامه كافة أنحاء المعمورة حاملاً رسالته الإنسانية، يبني ويعمّر في ترحاله وأسفاره، ويترك آثاره خالدة خلود التاريخ والإنسان. فأينما حطّ حطّت معه الأبجدية، فكانت رسالة الحضارة التي مدّنت الإنسانية كلها، وانطبعت أبجديته بثقافاتها من فجر التاريخ الإنساني إلى آخر سرمديته اللامتناهية… كانت الألف باء… كانت اللغة التي غيّرت وجه العالم وأعطته بُعداً ثقافيّاً إنسانياً حضاريّاً خالداً.
مما لا مشاحة فيه بأنّ اللغة العربية المنبثقة من اللغة السورية الأمّ بكلّ لهجاتها المنتشرة على أرض البعل وعشتار، من القدس إلى بيروت، ومن دمشق إلى عمّان فبغداد، تستقبل برحابة وعيها الإنساني تلك اللهجات الآتية من العربة والحجاز واليمن ومصر والمغرب العربي، حيث كانت تصقل بنفسها الحرف الجديد برموزه وأشكاله وأصواته، حتى بات مع مرور الزمن يُعرف بالحرف العربي واللغة العربية كخلاصة لتوحيد كلّ اللهجات بلهجة واحدة، وكلّ الأشكال في شكل واحد، كان للأمة السورية الدور الفاعل في بناء اللغة العربية الحديثة وأشكال أحرف أبجديتها، التي أصبحت في شكلها المعروف اليوم واحدة من أهمّ لغات الأرض على الإطلاق، والدة لها، تنبثق منها، وتأخذ منها مفردات وتعابير تختزنها في ذاكرة الشعوب معترفة بأصالتها ومدنيّتها الأولى.
نعم، سورية هي مهد اللغة العربية الحديثة، وهي منشأ أبجديتها، وهي تاريخها الثقافي الإنساني الطويل التي دافعت عنها وصقلتها وجعلتها واحدة من اللغات العالمية أدباً، تجارةً وسياسةً، علوماً ومعارف.
فالعالم العربي عبر تاريخه الطويل كان مركزه العلمي والسياسي سورية، وهذا لا ينفي أبداً بأن العالم العربي المترامي هو واحد من الحضارات التي تشكلت وأنتجت للعالم أعرق العلوم والمعارف في الطب والهندسة والفلك وكذلك بالحرف والقلم، كما أنّ ذلك لا ينفي بأنّ اللسان العربي هو حقيقة نفسية فاعلة والأمة السورية لها حقيقة فاعلة ضمن هذا اللسان في العالم العربي.
وكما جاء في مفهوم القومية الاجتماعية: “حين نقول العالم العربي نحن نعني هذا العالم الذي يتكلم اللسان العربي، ونحن منه”. نعم الأمة السورية إحدى أمم العالم العربي المستقلة بذاتها والتي “تتكلم اللسان العربي العزيز عليها”، هذا اللسان الذي “أنتجت من نفسيتها وعقلها وغذّته بإنتاجها وثقافتها، فهو عزيز عليها بما يشتمل عليه من فكر ونفسية وأدب سوري”، هي حقيقة ثابتة لا يمكن أن ينكرها الفاهم بالتاريخ والدارس بأصل الحضارة وتاريخ نشأتها.
هذه هي حقيقة اللغة العربية بالنسبة إلينا، وكما عرفت المدرسة السورية القومية الاجتماعية أيضاً وأيضاً بأنّ قيمة اللسان العربي لنا وقيمتنا نحن ضمن هذا اللسان هي: “بمواهبنا وبما نتج من تراث سوري فكري أدبي بهذا اللسان، بحيث أصبح السوري يجد فيه التعبير عن أساسه وإدراكه وفهمه، فهو قد صار خزانة النفسية السورية وثقافتها، ويجب أن يُغنى كثيراً بالتراث النفسي الثقافي السوري ليضمن للأمة كلّ احتياجه، ويستنير الأدب السوري والفن السوري كلّ جوانبه!»
إذاً، وفي هذا اليوم العالمي الذي يعطي للّغة العربية يوماً احتفالياً لذاكرتها التاريخية ولحضورها الإنساني الفاعل، علينا أن نقدّم، بكلّ قوّتنا الثقافية والمرتكزة على تاريخنا الحضاري الطويل، كلّ اشتراك ممكن ليضمن حقيقتنا الفاعلة بالإنتاج الإنساني في كافة المجالات كعنصر فاعل له مركزيته التاريخية، وكأساسٍ لنشوء المعارف والعلوم والحضارة الإنسانية، وليس ملحقاً بها أو تابعاً لها، بل منشئاً ومتدبّراً فيها.
اللغة العربية هي صناعة من صناعات هذه الأمة المعطاءة عبر تاريخها كصاحبة إبداع و”ابتكار أصلي” قدمت للإنسانية كلّ شيء قد ساهم في التطور الحضاري- التمدني- الإنساني، حتى أصبح العالم على شاكلته الحالية بما فيه من تقدّم وعلوم وحضارة حديثة ماثلة أمام أعينكم، نشأت هي نفسها في أعينكم وفي عقلكم الإنساني المستنير الفاعل الذي نختصره بكلمة: أمة اليقين “كلّ ما فيها جميل كلّ من فيها كريم، أمة نحن يقينا وحياة لن تزول».
هذه الأمة الناطقة باللسان العربي الأصيل الذي سكبت نفسها فيه، وأعطته من تاريخها الطويل، هي ذاتها تقدمت مراراً وكافحت للحفاظ عليه في صراع الوجود، وصانته، وحفظته، وجعلته الأبجدية الإنسانية التاريخية العالمية، وكما عيّن صاحب الدعوة إلى القومية الاجتماعية أنطون سعاده الذي يعتزّ باللسان العربي ودوره الفاعل في الثقافة الإنسانية وتطورها، والذي بعث مفهوم الأمة السورية إلى الحياة بعثاً خالداً لا ينكر عروبة لسانها الواقعي الحقيقي بمواجهة عروبة الزيف والمصالح، بقوله الضامن لصيانة هذا اللسان كلسان سوري أصيل يدافع عن الحرف واللغة، كما التاريخ والإنسان، كما الحضارة والعلوم والمعارف… بأنّ الأمة السورية هي الدرع الواقي لحضور العالم العربي ولسانه وهذه اللغة الإنسانية الشاملة، “نحن جبهة العالم العربي وصدره وسيفه وترسه، ونحن حماة الضاد ومصدر الإشعاع الفكري في العالم العربي كلّه”.
لنصن لغتنا بصون لساننا أمة فاعلة ناهضة تستعيد موقعها الإنساني الفاعل بين الأمم.
في اليوم العالمي للغة العربية ندعو الجميع إلى صيانة هذه اللغة بلسانها الفصيح لتبقى مشعالاً إنسانياً وهّاجاً يضيء مسارح الدنيا، ويشعشع طرقات الإنسانية خلوداً بوهج الألف باء… أبجد هوز حطي كلمن… هي اللسان الحقّ أمّ اللغات والألسن كلها على الإطلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ