كلنا قاسم*
عباس خامه يار**
الوجومُ المتجسّدُ في الوجوه والعيون في هذه الذكرى الأليمة، الذكرى السنوية الثانية لاستشهاد الحاج والمهندس، هو الذي ينطُقُ قبل اللسانِ والتعابير.
يذكرنا بملامحُ الإيرانيين ومعهم كلّ أحرار العالم والمستضعفين، التي امتزجت فيها العبراتُ المنكسرةُ بحسّ الغضبِ والثأر، هذا الشعب الصبور الحكيم.. من يعرفه ويفهمُ تاريخَ الوجدِ والعرفانِ في مسيرته.. يدركُ بأنّ هذه العاطفة المتماوجة على شكلِ سيلٍ شعبيٍّ حسينيّة.
لقد توحّدت صفوف الشعب، ووقفت إيران بكلّ أطيافها وبقاعها وبكلّ قامتها احتراماً وتحيةً وإجلالاً لفريقها ولحاجّها وجنديّها.
وقد صار خاتمُ سليمانيِّها محوراً تتبرك به البلاد بكامل شعبها.. تماماً مثلما تبرّك هو بخاتمه العقيقيّ.
وبعد عامين ما زال شعبنا ومعه الأحرار في كلّ مكانٍ أيضاً يهتفون «كلنا قاسم».
ما الذي تعنيه عبارةُ: «كلنا قاسم»؟
كلّنا سليمانيون.. ابني سليمانيّ..؟
ما الذي قاربَ بين هذا المشهد الملحميّ والأثر الكبير الذي تركه سلمان الفارسي في العالم! حتى ذهبت الشعوب الحرّةُ من عربٍ وعجم إلى المناداة: «سلمانُ منّا»… بلا انقطاع خلال العامين الأخيرين؟!
إذا أردنا أن نحفرَ معرفياً في عمقِ العمل العسكريّ ومعنى الإنجازات المتتالية والعزيمة الجهادية والدفاعية، نصل إلى شبكةٍ من الإنجازات العلمية إلى جانب العقائد الإيمانية والعرفانية التي تتموضع تحت الظاهر العسكري الذي يشكل دعامةً دفاعيةً تحمي كافة نجاحاتِ الدولة والفرد في إيران. نتحدّث عن النسَق المعرفي الذي تتكامل فيه العلوم والتقانةُ والأدب في حقبةٍ زمنيةٍ معينة، والذي يشكل العمل العسكري الواجهةَ الدفاعية التي تحميه من الانهيار أمام السلطات الغاشمة والاستكبار العالمي.
هذا الاستكبار الذي لا يمكنه ولوج وجدان المقاتل الإيراني، إذ إنه لا يراه سوى عسكريٍّ ندٍّ لأفرادِ جيشه.
لكنّ قاسم سليماني الذي يقبعُ خلفَ سترةِ القتال وخوذة الحرب، هو ذاك الإنسانُ الذي يوصلُ الدواءَ والمواد الطبية والتجهيزات الاستشفائية إلى بلاده المحاصرة اقتصادياً…
هو ذاك الذي يأتي حافيَ القدمين في المسيرات الكربلائية باكياً مع الباكينَ وأكثرَ مطأطئاً رأسه الشامخ.
هو الذي يزعجه المديح، بل إنه لا يصدّقُ أنه عالي الشأن، فتراه بين المدافعين يسألهم: هل إذا متُّ ستقرّونَ عند قبري بأنّ هذا الرجل كان صالحاً ومؤمناً؟ هل أنا حقاً صالحٌ برأيكم؟ فلتقولوا ما ترونني عليه عند قبري.
هو الذي يوصي زوجته وعياله بأن لا يُكتب على حجر قبره سوى كلمة “جنديّ”!
عيناه وهو يتحدث عن أمنية الشهادة تشهدانِ على حقيقة العاشق في داخله، الذي ينسى نفسه ويذوب في معشوقه، هذا المعشوق الذي لم يكن بالنسبة إلى سليماني شخصاً ولا ولداً ولا مالاً ولا دنيا بأسرها، وإنما الله الذي يشرقُ عشقه كالشمس على كلّ الكون.. لتبلغَ البشريةُ مبتغاها.
وإننا إذ نتحدث عن دافع العشق والإيمان، فإنما نقصدُ رقّةَ القلبِ ولينَه لدى أمثال الفريق سليماني. هذا الذي كان يبكي وهو البطل المقدام، فتراه عطوفاً حيث ذكرُ الشهداء وصغارهم، فيصدق عليه القول، أشدّاء على الكفّار رحماءُ في ما بينهم، فما كان ليقيم لنفسه وزناً بمعايير القيم الدنيوية والمادية.
مندفعٌ في حماية المقدسات والأطفال والنساء والمستضعفين بدمه، منسحبٌ بصمتٍ من مجالسِ امتداحه وتكريمه، فتراه محتجباً عن الأضواء والإعلام، فينطبق على شمته دعاء السجاد عليه السلام اللهم لا ترفعني في الناس درجةً إلا حططتَني عند نفسي مثلها..
قاسم سليماني قائدُ ثورات الأحرار.. هذا ما برز في حضور إسماعيل هنية مهرجان تأبينه في طهران، واحتشاد ثوار العالم العربي الأحرار في الواقع والافتراض ففاضت عواطف الوجد من صفحات العالم الافتراضي حزناً وتمجيداً وما زالوا…
قاسم سليماني.. كلّ أمٍّ مضطربة فاقدة، أعاد لها طفلها تشعر بالامتنان له. كلّ فتاةٍ حماها من تعرّض الإرهابيين تشعر بأنه الأب الروحي. كلّ شابٍّ مقاوم يشعر بأنه قائده النموذجي الذي يفديه بدمه.
عندما يضع المرءُ هدفاً سامياً نُصبَ عينيه، فإنه لا يرومُ من خطواته تعظيماً ولا شهرةً ولا مقاماُ.. وإنما خلوصُ نيّته هو ما يجعله عزيزاً.. فإنّ الله يعزّ من يشاء ويذلُّ من يشاء، وهكذا كان أن استحقّ لقب “سردار دل ها” أو قائد القلوب، هذا التعبير الذي يحاكي العشق العرفاني الصوفي الذي ميّز غزليات حافظ الشيرازي وخطاب مولانا جلال الدين وشمس التبريزي. فكان سليماني إلى جانب قيادته العسكرية قائداً للقلوب يعلّمها العشق والصبر إلى جانب العزيمة وإصرار المقاتل. أليست هذه سمات أبطال الأساطير؟ العشق والبطولات والأمجاد؟
هكذا كان هو.. تلك القوة المركبة من النعومة واللين والصلابة معاً.. سواءً في حياته أم بعد شهادته.
ربما كان لبقائه أن يوحّد صفوف هذه الأمة والجغرافيا يوماً ما.. غير أنّ الجليّ في هذا المصاب أنّ شهادته هي ما وحّدت قلوب الأحرار في العالم.. فكانت إحياءً للرسالة الحسينية، فداءً لمسيرة أهل البيت عليهم السلام.
بشهادة اللواء قاسم سليماني.. سيضاف وجهٌ جديدٌ إلى ثوار العالم.. بل لعله سوف ينسينا وجوهاً كثيرةً ظلت بارزةً حتى هذا اليوم..
إنّ فلسفة الشهادة منهجُها طريقٌ طويلةٌ باتجاه الغايات البشرية العظمى، التي تسخّرُ خطى الإنسان وسلوكياته صوبَ الارتقاء الروحي إلى ما بعد الدنيا.. إلى الأبدية.. الخلود..
وإنّ شهادة سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما لا تعدّ نهايةَ مسارٍ، بل منعطفاً حاسماً يفصلُ بين مرحلتين، كان لزاماً أن ينال هؤلاء الأبطال شهادتُهم فيها.. حتى تبقى الرسالة وتستكمل بروحٍ أشدّ عزيمةً وإصراراً.
قاسم سليماني بحث طوال أربعين عاماً على ضالته؛ الشهادة، على معشوقه.. في الداخل والخارج.. بين السهول والوديان والجبال.
إنه إلى جانب دوره العسكري، قد رسّخ في المجتمع الإيراني والعربي على حدّ سواء.. ثقافة المقاومة والاستشهاد. وهذا ما جعل كلاّ منا يرى نفسه معزياً، وجعل التضامن والوحدة الإطار العام للشعب الإيراني اليوم.. أما في صفحات التواصل الاجتماعي، فإنّ بإمكاننا أن نلمس فعلاً حقيقةَ هذا الرجل وأبعاد شخصيته.
لقد أكمل مسيرةَ بهشتي ورجايي وباهنر.. واستحقّ عن جدارةٍ لقبَ الأب العزيز.. هذا اللقب الحبيب إلى قلبه.
عزيزُ الديارِ سليمانيُّ أمتِنا.. حامي أوطانِنا.. قائد قلوبنا.. حامل راية العشق والمحبة.. حامل الراية.. الذي خرج لنصرة الحق.. وتقطّعت يداه ولم يعد.. فبقينا ماكثينَ في صحراءِ دنيانا يقتلنا الظمأ.. ويسبينا الجور لولا تلامذته من الأجيال القادمة..
إلا أنه أطاح بالتكفيريين في حياته، وأخرجهم أذلاء في استشهاده. فتوحدت الأمة في لُحمةٍ غير مسبوقة.
عامين من استشهاده تذكرنا بأنّ شهادته لم تضعفنا.. وإنما تلهمُنا القوةَ دائماً بوقود العزيمة والإيمان…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ