قاسم سليماني: سرّ النموذج
النائب محمد رعد*
قاسم سليماني، قائدٌ نموذج أبدعته الثورة الإسلاميّة المظفّرة في إيران، منذ خفق قلبه لشعاراتها ولراياتها وتفتّح عقله على صوابيّة أهدافها ونهجها.
انخرط في صفوف المدافعين عن شعبه وأرضه وبلده، فور اندلاع الحرب العدوانيّة الكونيّة التي شنّها ضدّهم النظام البائد في العراق بدعم من الأميركيين ومعظم دول الغرب آنذاك، وبتمويل من دول الخليج عموماً والتي كانت تربطها علاقات صداقة حميميّة مع نظام الشاه الحليف للكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين.
في ميدان المقاومة والتصدّي للعدوان تشكّلت ألوية وفيالق الحرس الثوري الإسلامي لتكون سياج الثورة الفتيّة ودروعها الحصينة التي تذود عن الوطن وأبنائه ومنظومته الحضاريّة.
وإذ يتولّى فيلق القدس مهاماً تحرريّة يؤدّيها في أيّ مكان وزمان رجال يحوزون على مهابة جاذبة وأخلاقيّة أخاذة تفصح عن مخزون نوعي من القياديين والمجاهدين المتمرّسين، فإنّ دوره ينطوي على مضمونٍ ثقافي وتربوي ومنهجي وسلوكي يعكس الصورة البهيّة للثورة الإسلاميّة المنتصرة ولوهجها الحضاري المادي والمعنوي ولسموّ أهدافها ولمؤهّلاتها المتشعّبة التي تمكّنها من تنمية القدرات ودرء المخاطر والاعتداءات.
سنوات الفتوّة والشباب أمضاها الحاج قاسم متنقلاً بين محاور الجبهة شاغلاً أكثر من مهمة ومتحمّلاً أكثر من مسؤوليّة ومواجهاً أكثر من صعوبة وتعقيد ومعوّق، فاستطاع بإيمانه وبشغفه بالثورة وبقائدها وبإمام العصر (ع)، أن يتعرّف على الكثير من الحقائق والخبرات التي لا يتوفّر التعرّف عليها إلا في أوقات الشدّة والقلّة والعجز والجوع والخوف أحياناً، وتَشَارَكَ في الصبر والعبادة والهمِّ والشكر والتضحية والجرح، مع أبطالٍ بأعمارٍ متفاوتة تواضع لهم وتعلّم منهم وأشرقت روحه بمحبّتهم وأخوّتهم، وذاب قلبه وجفّ دمعه لاستشهاد بعضهم وفراقه لبعضهم الآخر، وانزرعت في نفسه لهفةُ الوفاء للجرحى منهم وللأسرى ولمفقودي الأثر وللوعة عوائلهم كافّة، حتى صار أخاً لأخوتهم وابناً لأهلهم وأباً لأيتامهم ومتفقداً لأحوالهم.. وهذه الأمور تحتاج بالضرورة إلى صدرٍ يتسعْ، وروحٍ تتمدّدْ، وخُلُقٍ يتكيّفُ ويستوعِب، وعقلٍ يربّي ويحتكم للمعايير السليمة والموازين الأخلاقيّة المنصفة.
وفوق ذلك كله قدِّرَ له أن يختبر أنماط تفكير واهتمامات وطباعاً مختلفة، وأن يُوَفَق للموالفة في ما بينها ومعالجة مشكلاتها وتوظيف إيجابياتها في خدمة الأهداف المقررة وتقويم سلبياتها… فاكتسب من ذلك كله خبرة متراكمة، ارتقى معها على أجنحة إخلاصِه وسعةِ أفُقِهِ وطمأنينةِ قلبه إلى معارج القيادة والمسؤوليات العليا، فوقع الاختيار عليه كي يتسلم في عهد الإمام الخامنئي دام ظله، قيادة فيلق القدس ليُنجِزَ أشرفَ وأَعقَدَ وأنبَلَ مهمّةٍ ثوريّةٍ تتمثل في دعمِ ومساندةِ الشعوب الشقيقة والصديقة للدفاع عن نفسها وأوطانها، ولمكافحة الإرهاب على اختلاف أنواعه، وللتحرّر من كلّ محاولات الأعداء لابتزازها أو لفرض الوصاية عليها أو رَهنِ مصيرِها بالتزامات تتعارض مع مصلحتها ومصلحة بلادها أمناً واستقراراً وتطويراً.
سرّ نجاح القائد الحاج قاسم سليماني يكمن في جملة أمور نوردها دون ترتيب:
ـ إيمانهُ اليقيني بالله وبصوابيّة نهج الولاية والثورة، واعتقاده بالعرفان العملي الذي يحقّق السموّ والوصول لرضا الله سبحانه عبر الاشتغال بالتطبيق العمليّ للمعارف والأحكام الإلهيّة دون الاكتفاء بلذّة الأنس بالنصّ والمضمون واللفظ والشكل على حساب إكمال المعنى الذي لا يتحقق إلا بالعمل والجهاد.
ـ عزمه الدائم ومسارعته إلى تنفيذ المقرّرات وتوفير المقدمات الممكنة.
ـ وضوح الرؤية عنده ووقوفه المباشر على إعداد الخطط ومعرفة مفاتيح التسهيل أو التعطيل.
ـ تشاوره قبل القرار وحزمه فترة التنفيذ والإنجاز.
ـ إخلاصه الشديد للقائد وتعبّده لله بهذا الإخلاص.
ـ محبّته واحترامه للمجاهدين وتقديرهما الفعلي والواقعي لأهميّة جهودهم وجهادهم وصدق تضحياتهم.
ولئن تيسّر لنا عرض بعض إبداعاته التي أسهمت بنجاحه في أداء مهامه.. لأمكننا استحضار الآتي:
1 ـ التأكيد على وجوب قتال الصهيوني في قواعد انطلاق عدوانه وليس فقط في أرض المعتدى عليهم.
2 ـ تثبيت معادلة الردع والدقة في تعزيزها ومواكبتها.
3 ـ استنفاد ما يلزم من توقعات لتلافي عنصر المفاجأة لدى العدو.
4 ـ الواقعيّة في التشخيص والمرونة في صياغة التحالفات اللازمة لمواجهة التحديات.
5 ـ الحضور المباشر والمتابعة الحثيثة للتطورات.
6 ـ ملاقاة التقدير السياسي واحتمالاته، بالتحضيرات والبدائل الميدانيّة دونما ملل أو ضجر أو تأفف أو برودة.
أما حضوره المذهل في قلوب المستضعفين وعقولهم فمردّ ذلك إلى جملة أمور:
1 ـ حبّه هو للناس، تحسّسه لآلامهم، للظلم الواقع عليهم، وتحفزه للتخفيف عنهم، لرسم البسمة على وجوههم، الحرص على إدخال الراحة والسرور إلى نفوسهم وبيوتهم، هدم الفواصل في ما بينه وبين الناس إلا ما حرّم الله، وتوفّر شخصيّته على عذوبة الكلام، وحسن الملاقاة واحترام الصغير وتوقير الكبير والتواضع والحياء والإيثار.
2 ـ علاقته الحميمة مع الإمام القائد الخامنئي دام ظله، ومعرفة الناس وتفهّمهم لعمق هذه العلاقة التي تكشفها الصورة والاحتضان واللهفة والبشاشة على الوجهين والدمعة المنسابة شكراً لله على الانتصار، ولوعةً وحسرة على الفراق.
إنّ ما تختزنه الناس من حب القائد، فاض وانضاف إلى حبهم للحاج قاسم وعبر هذا الفيض عن نفسه في طوفان التشييع النادر.
3 ـ من لم يعلّمه الشهداء الصدق والكرم والإخلاص، فلن يتعلّم مدى حياته من أحدٍ مهما بلغ علمه وتمادت خبرته.
الحاج قاسم كان يفخر بما تعلّمه من الشهداء، ولو تمثَّلْتَهُ حين كان يتحدث عنهم وعمّا استفاده منهم لَوَقَعْتَ على سرّ رقّته مع إخوانه وبأسه مع الأعداء.
***
أما على مستوى الأفق السياسي والاستراتيجي، الذي نهض فيه الحاج قاسم بدورٍ فاعل واستثنائي مميّز، فمما لا شك فيه أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة وبرعايةِ وتسديدِ سماحة الإمام الخميني الراحل قدس سرّه، ومن بعده سماحة الإمام الخامنئي القائد دام ظلّه، قد التزمت إزاء المنطقة وبشكل حازم وقاطع ثوابت استرتيجيّة واضحة ومحكمةٌ، ضبطت كلّ أدائها السياسي ضمنها وواجهت العديد من التحديات من أجل أن تَثْبُتَ عليها ولا تحيد عنها، وقاومت الكثير الكثير من الإغراءات التي تدفقت عليها عبر عروض متنوّعة حتى تخرج عن تلك الثوابت أو تنصرف عن الالتزام بها…
أهمّ هذه الثوابت الاستراتيجيّة يمكن تلخيصها وفق الآتي:
1 ـ أمن المنطقة تحميه دول المنطقة.
2 ـ الكيان الصهيوني يمثل التهديد الاستراتيجي والوجودي للمنطقة كلها.
3 ـ أطماع القوى الأجنبيّة الاستكباريّة في المنطقة وثرواتها وممراتها وأسواقها.. تستوجب من دول المنطقة وشعوبها بناء أقوى وأوثق العلاقات في ما بينها، لمواجهة تلك الأطماع وللحفاظ على هويّة المنطقة وقدراتها وإسهامها الإيجابي في التقدّم والتطوير الحضاري والإنساني العام.
وبعيداً عن السياسات التي كانت تحركها في منطقة الخليج هواجس مفتعلة أو التزامات مرتجلة بسياسات ومواقف دول وقوى نفوذ معادية للثوابت الاستراتيجية المشار إليها أعلاه… كان من الطبيعي أن تنشط الجمهورية الإسلامية لتثبيت ودعم واستنهاض الدول والقوى الملتزمة أو المهيّأة للالتزام بهذه الثوابت، وأن تتحرك بفاعلية وسرعة لتقويتها ومساندتها بكلّ ما تستطيعه لحمايتها من التهديدات ولإيجاد العوائق والعقبات أمام العدو الاستراتيجي للمنطقة المتمثل بالكيان الصهيوني وقوى الاستكبار الأجنبيّ الداعم له، ولإظهار المدى الجيوسياسي القادر على المواجهة لتهديدات العدو ومشاريعه التوسعية والتسلطيّة. كلّ ذلك من دون أيّ تورّط بالشؤون الداخليّة ومن دون أيّ تدخل في قرارات وإجراءات أيّ من تلك الدول أو القوى احتراماً لخصوصيّتها والتزاماً منها بالثقة القائمة على الفهم المتبادل للمنطلقات والمصالح المشتركة لكليهما.
الحاج قاسم سليماني نهض بمسؤوليّة ترجمة تلك الثوابت ميدانيّاً انطلاقاً من الدائرة الأكثر التصاقاً وتماساً مع الخطر الاستراتيجي الذي يمثله الكيان الصهيوني الغاصب.
بدأ من داخل فلسطين… وتوسّع اهتمامه لما حولها. وأقام علاقة جدليّة متناغمة بين فعل الداخل وتعزيز قدرة الطوق المؤيد والداعم، واستطاع أن يربك مصدر التهديد بإشغاله في ساحة احتلاله وإظهار نقاط ضعفه وإسقاط أسطورة تفوّقه.
وبهدف وضع حدٍّ لتنامي هذا الإرباك، عمد العدوّ إلى الانخراط الفعلي أو شبه المباشر في توسعة مساحة الاشتباك في المنطقة مدعوماً بالإسناد الأميركي والإرهاب التكفيري وببعض التواطؤ والغباء الحاكم في بعض دول المنطقة، إلا أنّ منهج التصدّي الحازم والسرعة القياسيّة في تطويق وخنق هذه التوسعة… أسهم في استنهاض ساحات للمقاومة تخطّت لبنان وسورية إلى العراق واليمن لتكبر معضلة العدو الصهيوني الذي وجد نفسه مطوّقاً بكمائن موزعة ومتوثّبة لمواجهته، وهو وإنْ حاول التفلّت من عبء المشاغلة المباشرة مع تلك الكمائن عبر التمويه واللجوء إلى تسريع العمل بوصفة التطبيع المتسرّعة مع بعض دول الخليج، وإثارة مخاوف المنطقة من النووي الإيراني والتحريض من أجل رفض التعايش الدولي معه. إلا أنّ ذلك لم يكن إلا ردّ فعلٍ قاصرٍ عن التصدّي لفعل متواصل قد قطع أشواطاً في تجاوز العراقيل والمعوّقات ولم يعد أحد قادراً على منعه من الوصول إلى مبتغاه سواء في امتلاك إيران الدورة النوويّة الكاملة للغايات السلميّة، أو في ارتفاع منسوب الوعي لدى شعوب المنطقة حول مخاطر التهديد الصهيوني وقدرة المقاومة على التصدّي له وإحباط مفاعيله.
الانتصارات المتتالية والمتراكمة في ساحة مواجهة العدوّ بدءاً من تحرير لبنان إلى انتصار العام 2006 ثم الانتصار في سورية ثم في اليمن، وليس آخراً في معركة سيف القدس في فلسطين، هي مفرداتٌ في سياقٍ تاريخي عزّز ورسّخ الحضور المقاوم وأنتج محوراً تتكامل قدراته بين طهران وسورية والعراق واليمن وفلسطين ولبنان، مرشّحاً لأن يحتضن ويستنهض المزيد من قوى وشعوب ودول المنطقة لمواصلة الضغط من أجل تحقيق الثوابت الاستراتيجيّة التي تعبّر عن أصالة هذه المنطقة وهويّتها…
الحقّ يُقال إنّ الشهيد القائد الفريق قاسم سليماني، كان له قصب السبق في بناء قواعد هذا المحور ومداميكه، وكان له الإسهام الريادي في صنعه وإنجازه… فبصماته ظاهرة فيه وفنّ حياكته لا يخفى على متتبّع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ