فائض القوة ونقاط الاشتباك
سعادة مصطفى أرشيد _
مع أنّ رئيس الحكومة (الإسرائيلية) نفتالي بينيت لا يزال يُعتبر طارئاً على عالم السياسة والقيادة، وباهت الأداء خاصة انه جاء كخليفة لأحد أهمّ القادة وأطولهم عمرا في تاريخ دولتهم القصير، وإنْ جاء من ذات مدرسة اليمين المتطرف ويتشارك مع سلفه القناعات والعقيدة السياسية القائمة اليوم على الاختراق القومي والعربي والإسلامي من جانب، وعلى العمل ضدّ أيّ أفق سياسي تفاوضي مع الفلسطينيين مهما بلغت درجة استعدادهم للتنازل، فلا دولة فلسطينية في الضفة الغربية، ولا قدس ولا وقف أو تخفيض وتائر الاستيطان ومصادرة الأرض، تمهيدا لضم الجزء الأكبر منها، والعلاقة مع السلطة الفلسطينية لن تتجاوز المستويين الاقتصادي والأمني، ولكن الخلاف بين الرجلين هو شخصي حول الموقع أولاً، وحول شكل العلاقة مع واشنطن لا جوهرها ثانياً.
لا يترك نفتالي بينيت أيّ فرصة دون أن يتصرف مع واشنطن على طريقة الولد الذي أفسده الدلال، معتمداً على الرغبة الأميركية في بقاء حكومته واعتماداً على هذه العداوة الشديدة بين واشنطن وسلفه نتنياهو، والذي يريده البيت الأبيض وإدارته الديمقراطية أن يبقى خارج الحياة السياسية بشكل نهائي، إنْ لم يكن وراء قضبان السجن، من هنا ينطلق تدلل بينت، فسقوط حكومته سيؤدّي حتماً إلى انتخابات مبكرة قد يملك الخصم اللدود نتنياهو فرصاً للفوز بها.
لا تمانع الإدارة الأميركية في إعطاء بينيت أوراق قوة ودعم، ولكن ليس على حساب مصالحها واستراتيجياتها، وإنما على حساب آخرين، أولهم الفلسطينيون، إذ ترضيه وتدعمه على سبيل المثال لا الحصر، في مسألة إعادة فتح القنصلية الأميركية في شرقي القدس بحث يتمّ إلغاء القرار أو تأجيله بحكم الإلغاء، أو إلى حين تكون المحكمة التي تنظر في قضايا فساد متهم بها نتنياهو قد أصدرت حكمها شبه الأكيد بإدانته، الأمر الذي يضمن خروجه النهائي من الحياة السياسية، أو أنّ واشنطن تغضّ النظر جزئياً عن الممارسات الاستيطانية وسياسة هدم البيوت ومصادرة الأرض، كما في تماديها وعدوانيتها على غزة المحاصرة وعلى الأرض والأجواء السورية .
أطلقت رحلة القطار التجاري الباكستاني الأولى منذ أيام طلقة تحذير للأميركان، هذا القطار العابر لطريق الحرير القديم سوف يصل حالياً الصين بأوروبا عبر باكستان ومروراً بإيران وتركيا وما يهمّ الاستراتيجية الأميركية هو الصين وبحرها وطرق حريرها، استجابت (إسرائيل) مضطرة للالتزام بالرؤية الأميركية، وأكد بينيت على أنّ حكومته بصدد تعميق التنسيق والتعاون الأمني مع استراليا الحليف الأهمّ لواشنطن في استراتيجيتها الجديدة، وهذه الاستراتيجية هي ما دعت الأميركي لتقليص تواجده في الشرق الأوسط، لحساب شركات المرتزقة مثل شركة (بلاك وواتر (Black Water وغيرها من الحلفاء وعلى رأسهم الحليف (الإسرائيلي) الذي لم يعترف بعد بفشله في العمل على تخريب مسار فينا الإيراني – الأميركي.
يرى العقل السياسي (الإسرائيلي) المسكون بهواجس الأمن وعقدة التفوق العسكري، أنّ إيران نووية هي خطر داهم وشر مطلق حتى لو توفرت الضمانات على سلمية المشروع وعدم سعي الجمهورية الإسلامية لتطوير برنامجها عسكرياً وسعيها لامتلاك السلاح النووي، وخلال السنوات الماضية مارست كلّ ما في جعبتها من حيل وأساليب للتحريض على الاشتباك مع إيران وعلى توريط الأميركان وحلفائها الجدد في الخليج، (إسرائيل) تريد حرباً يقاتل بها ويموت بها ويدفع كلافها آخرون، وقد حاولت جاهدة التشويش على مفاوضات فينا. لكن (إسرائيل) في النهاية تعرف حدودها، وأنها لن تستطيع التأثير على التوجه الأمريكي تجاه الشرق البعيد بعرقلة الاتفاق القريب مع طهران، وتعرف يقينا أن حربا مع إيران لا تستطيعها دون الغطاء الأميركي غير المتاح، والأميركي بدوره وفي حال فشل في الاتفاق مع طهران، فإنه لا يفكر بأكثر من تشديد العقوبات والحصار عليها. لكن (إسرائيل) تظنّ أنها تملك وسائل عديدة تستطيع العمل عليها لإشغال طهران وإرهاقها ومنها حروب الظلال والأشباح، وإيران في المقابل لا تقلّ مهارة عن (إسرائيل) في مثل هذه المعارك التي تديرها بهدوء ومن غير ضجيج كما أنها تستطيع إرهاق (إسرائيل) عبر تمدّدها الإقليمي وأذرعها النشطة وحلفائها من غزة إلى مأرب وما بينهما .
تفيد الأنباء والمؤشرات الدبلوماسية أنّ واشنطن قد أخذت تتعامل مع بينيت بشيء من نفاذ الصبر، إذ تردّد الأنباء العبرية أنّ بايدن يعتذر عن عدم استقبال مكالمات بينيت الهاتفية الملحة، فيما أجاب عليها بعد إلحاح وزير الخارجية بلينكن، ولعلّ الإدارة الأميركية قد أخذت تستعجل رحيل بينيت واستلام شريكه في الائتلاف الحاكم يائير لبيد، الذي تفضل التعامل معه ومع وزير الدفاع غانتس.
تكمن مشكله كلّ من الحكومة والدولة العبرية أيضاً في أنهما تحتاجان إلى إنجاز عسكري، إلى انتصار يعيد الثقة المهزوزة في جيشها وفي قدراتها الردعية ثم أنّ لديها فائض قوة كبير، ولكنه عاجز عن الاشتباك مع إيران، هذا وإن كان لا يقين مطلق بالسياسة، إلا أنّ إمكانية الاشتباك مع إيران تبقى قائمة وإنْ كانت ضعيفة، فالحذر يجب أن يكون في معرفة أين سيتمّ تفريغ فائض القوة هذا، وأين يرى (الإسرائيلي) نقاط ضعف يستطيع تفريغ فائض قوته فيها وبأكلاف منخفضة، الأمر الذي يتطلب الاستعداد للتعامل معه والتصدي له، فهل يرى في تنفيذ سياسته المعروفة بقصّ العشب كلما نما في الضفة الغربية وخاصة محافظة جنين ما يفي بغرضه هذا، أم انه ذاهب للاشتباك مع غزة أو سورية التي يراها ضعيفة وهشة؟