الطائفية قنبلة لبنان الموقوتة… فهل يعود اللبنانيون إلى سعاده؟
} ابراهيم فواز نشابة
لم نستطع حتى الآن أن نفصل بين الدين والدولة في الحياة السياسية اللبنانية التي من المفترض أن تعمل لمصلحة الشعب كلّ الشعب وليس لمصلحة الطائفة أو المذهب أو الجماعات المتفرقة المتشكلة لمصلحة الأحزاب أو المناطق أو الأشخاص والتي يتولد عنها مفاهيم الزبائنية والتبعية والانعزالية والإلغاء والابتعاد كلّ البعد عن مفهوم الجماعة الواحدة رغم تنوّعها الديني والثقافي في مجتمع واحد منسجم متسق مع ذاته قادر على البقاء والاستمرار والتطور والإنتاج.
يمكن ان ننطلق هنا من النظرية السياسية الليبرالية «لرولز» الذي اعتبر «أنه يجب أن تواجه حقيقة جوهرية في كلّ المجتمعات الديمقراطية وهي حقيقة التنوّع. المجتمعات الديمقراطية تحتوي أفراداً مختلفين في خلفياتهم الدينية والعرقية والجنسية والفلسفية… هذه الحقيقة تفرض على نظرية العدالة أن تبحث عن مبادئ تحظى بالقبول من أفراد هذا التنوع. بمعنى أنّ «رولز» يبحث عن نظرية للعدالة يمكن أن يقرّ بها المسيحي والمسلم والبوذي والملحد والعلماني والرجل والمرأة والأبيض والأسود إلى آخر عوامل التنوع البشري. هذا تحدّ هائل لأيّ نظرية سياسية، ولكن رولز يعتقد أنه ممكن ولكن بشروط. أول هذه الشروط أن تكون هذه النظرية سياسية لا ميتافيزيقية شاملة. بمعنى أنها نظرية خاصة بعمل مؤسسات البنية الأساسية ولا تتدخل في سلوك وقرارات الناس الخاصة».
أما حقيقة التنوع في لبنان فقد شوّهتها الطائفية من منظورها اللا أخلاقي والتي اخترقت على عكس ما قاله رولز حياة المواطنين اللبنانيين وتدخلت بشكل كبير في سلوكياتهم وقراراتهم الخاصة…
من هذا المنطلق، تطرح الطائفية إشكاليات علمية مجتمعية سياسية وايديولوجية، أبرزها كيفية تشكل سلطة وطنية حقيقية قادرة على انتشال لبنان وشعبه من قاعه المزدحم بالحروب الطائفية والالغائية والقتل على الهوية والمذهب والمنطقة.. كما أنها تطرح التساؤل حول كيفية بناء هيكل الدولة قبل بناء الفكر الإنساني اللا طائفي المشبع بالأخلاق وثقافة الحياة؟
أعتقد أننا أمام مشكلة مزدوجة تبدأ أولاً بطرح إشكالية النظام السياسي اللبناني بشكل كامل والذي ارتبط كالحبل السري بالولادة القيصرية للكيان اللبناني الذي خلع بقوة الاستعمار الثقافي والديني رداء الوطنية والانتماء الى الوطن الأم بحدوده الطبيعية…
هذا النظام الطائفي المشؤوم خلقته القوى الاستعمارية أولاً من خلال تغيّر ديموغرافية لبنان عبر إضافة بعض المحافظات اليه وسلخها من سورية. وحاولت بعدها إلباس انتدابها ثوب الديموقراطية وذلك ابّان انتخاب المجلس التمثيلي الأول في 22 ايار 1922. فقد كان هذا المجلس يتألف من 30 عضواً قسمتهم دولة الانتداب بين الطوائف. ولم تكتف بذلك، بل قسمت لنا ايضاً المناصب الرئاسية والإدارية على أساس التمثيل الطائفي… حتى كرّس اللبنانيون نظامهم الطائفي بأنفسهم في وثيقة الوفاق الوطني «اتفاق الطائف»، الذي أعلن صراحة إلغاء الطائفية السياسية دون جدوى.
هكذا جعلوا من لبنان قنبلة موقوتة تتحكم بحياة المواطنين وتهدّدهم بأمانهم واستقرارهم وهويتهم ولقمة عيشهم وحقهم في الحياة والعيش بكرامة..
وجعلوا من لبنان رهينة للسياسات الدولية وصندوق بريد للانهيارات والانفجارات والصراعات المحلية والإقليمية.. وساحة مشرّعة للسرقات والفساد والاستثمارات التدميرية بأموال الناس وممتلكاتهم وأفكارهم.. وأرضا خصبة لتصفية حساباتهم عبر الأدوات التي كان ولا يزال ولاؤها للسفارات وليس للوطن…
حيث لم يعد المواطن اللبناني سيد نفسه في وطنه.. حتى أنه افتقد حسّ الانتماء الى وطن وجعلوه يؤمن بأنّ الانتماء الى الطائفة وحزب الطائفة ضمان سلامته الأمنية والمعيشية.. وبات مشرّداً يبحث عن هويته الحقيقية.. التي تقسّمت بين هويات مختلفة منها الطائفية والمذهبية او الشخصية والمناطقية أو حتى الهوية التي تثبت ولاءه لدولة أخرى عابرة لحدود بلاده الطبيعية…
كلّ هذا أدّى في نهاية المطاف الى هذا الانهيار الكبير بتغطية مباشرة من أمراء الحرب في الداخل وعلى رأسهم أمراء الطوائف.. حيث نراهم ينفذون حرفياً الأجندات الغربية واستراتيجيات الدول المهيمنة على سياسات العالم والمتدخلة دائماً وأبداً في الشؤون الداخلية للدول التي لم تعرف الاستقرار منذ أن نالت استقلالها الوهمي.. لنرى أننا نتحدث عن اللا دولة أو عن الدولة الفاقدة لهيبة وجودها وقوتها ومؤسّساتها.. الأمر الذي انعكس على وجود المواطن الحقيقي وهويته المفقودة بعد أن فقد أمواله وحقوقه التي شرعتها له كلّ المواثيق الدولية، وباتت المنظمات «غير الحكومية» التي خلقت للقضاء على دور الدولة، وللسيطرة على المواطن من الناحية الفكرية والاقتصادية، ولتنفيذ سياسات بلادها الملاذ الآمن للمواطن اللبناني.
هذا النموذج اللبناني الذي قد يختلف عن أيّ نموذج آخر، نستطيع أن نقدم فيه تحليلاً نسقياً وظيفياً لديناميكية الحياة السياسية وميكانيكية عملية صنع القرار السياسي فيه، حيث لا يمكن أن نغفل فيه العامل الخارجي المتمثل بالضغوط الدولية واستراتيجيات الدول الكبرى السياسية والاقتصادية والعسكرية.. حيث يُضاف هذا العامل الى البيئة الداخلية التي تحوّلت الى بيئة هجينة مرتبطة ومتأثرة بشكل دائم بالبيئة الدولية..
أما الإشكالية الثانية التي يمكن أن نطرحها في هذا السياق فهي مشكلة الأخلاق، وهي مشكلة بنيوية تربوية انتقلت بشكل عكسي من الشعب الى السلطة ومن السلطة الى الشعب. أما التحليل السوسيو سياسي لإشكالية الأخلاق المفقودة في التجربة السياسية اللبنانية فيعود الى بنية تشكيل المجتمع اللبناني وفرزه مناطقياً وطائفياً قبل أن تشكّل الدولة القائمة بذاتها من حيث كونها كياناً جغرافياً مؤسّساتياً محدداً. فالصراع من أجل البقاء جعل من المواطن اللبناني غير مبال في تصرفاته الفردية وسلوكياته التي تهدف الى تأمين قوت يومه واحتياجاته الأساسية خصوصاً بغياب دولة القانون وانتشار شريعة الغاب. الأمر الذي حوّل الجماعة الواحدة الى جماعات متنافرة متقاتلة غير منسجمة وغير متفاهمة ولا تعترف ببعضها البعض ولا تملك إرادة واحدة بل تعيش على مبدأ المنافسة غير المشروعة لاحتلال النفوس والفكر والعقائد قبل احتلال الحكم والسلطة والمواقع.. وهي وإنْ حققت مآربها وغاياتها في الوصول الى السلطة زرعت في مؤسسات الدولة بذور الطائفية لتنبت مزيداً من الفساد والسرقات والتعديات وبالتالي مزيداً من الضعف والانهيار في النظام. الأمر الذي يثبت نظريتنا حول الأخلاق المفقودة في العلاقة العكسية بين الشعب والسلطة.. ما يذكرنا بقول للمفكر أنطون سعادة «إنّ القوّة النّظاميّة مهما كانت صغيرة، أفعل بكثير من الجّماهير الّتي لا تجمعها إرادة واحدة في الحياة ونفسيّة واحدة وبناء مناقبيٌّ واحد». وهذا بالطبع ما يفتقد اليه الشعب اللبناني الذي أفقدته الطائفية البناء المناقبي الواحد والإخاء القومي.
نخلص الى القول إنّ لبنان يعاني مشكلة أخلاقية في النظام السياسي ككلّ… فهل ستكون الأزمة الأخيرة بداية النهاية لهذا النظام الطائفي البغيض؟ وهل سيعود الشعب الى قول سعاده بأنّ «لبنان يفنى بالطائفية ويحيا بالإخاء القومي»؟