أولى

«الشَّهيدُ» الْتَحَمَ بالضَّوْءِ

 زاهر الخطيب*

… وفيما تَنْساقُ كالغَمامِ أنْغامُ تَوارُدِ الأفكار، تَتَداخَلُ الذِّكْرَياتُ وكأنَّها تَرسِمُ لي قَـدَراً صاغَهُ ماضٍ تَوَقَّفَ عِندَ لَحظَةٍ أمامَ «مِصعَدِ الحياة» ليَـقـول :

لَمْ تَعُد مُلْكاً لأحَدٍ سِوى لِغَدٍ مَجهول.. فإمّا أن يحكُمَكَ ويَتَحَكّمُ بكْ ..

وإمّا أن تَعي كـيفَ تُرَوِّضُ حَـَركَتَكَ مَعَ غَدِكَ مُتَحَكِّماً بِمَسارِهِ، بِقَدْرِ فَهمِكَ لِقوانينِهِ ونوامـيسِه، وذلِكَ وَفقاً لِحُرِّيَتِكَ بلْ قُلِ الحُرِيَّةُ بأبعادِها الحَقيقيّةِ التي هي أساسُ القِيَمِ المجتمعية في الحياةِ الإنسانيّة.

ـ بهَذا الفَهْم العِلميِّ المُتَواضِع، كانَ فَوراً الالتِحامُ الواعي بِحَرَكَةِ التَّاريخ، قراريَ النَّابعِ من صَميمِ الإيمانِ، بِقانونِ تَغَيُّر الصَّيرورَةَ التي تودي بِسَيْلِ الحَرَكَةِ إلى التَّطَوُّرِ وَالتحَوُّل، كما في جَدَلِ كُلِّ شيءٍ في الوجود، مع مُرَور العُصوُر يَتَحَوَّل، وَيَتَغَيَّرُ بظاهِرِهِ والدَّاخِل مـن حالٍ إلـى حال، ويصُحُّ هنا اسْتِحضارُ قَولٍ لِــ «هيراقليت» في زَمانِ اليونان… «لا يَغتَسِلُ المَرءُ في المِياهِ الجاريَةِ مرّتين».

وَتِـلـكَ اللَحـظَةُ الــتي مَـرَّت علـيَّ فاتَت، وَلـن تَثْبُتَ مَـكـانَـها، أليسَ لِكُلِّ مَكانٍ زمان؟

ـ فما مَضى قد مضى وانْدَثَر، ولن يبقى لي من حياتي سوى التَّجارُبِ والـعِبَر…

«مِصعَـدُ الحياة» يِرمزُ إلى مِصعَدِ البِنايةِ الذي توقّفتُ عِندَهُ مُنتَظِراً لأصعدَ إلى البيت…

 وكان ذَلِكَ يَومَ تَبَلَغْتُ فيه نبأ اسْتِشْهاد ظافِر .. إذْ عادَ إلى فِكري بِلَمْحَةِ البَرق كلُّ الماضي…

 وبِلَمْحَةِ البَرقِ، رَسَمْتُ غدي والمَسارَ الذي حدّدتُ لِحياتي؛ وكان «العهدُ» الذي قَطَعتُ على نَفسي، عَهْدَ الوَفاءِ لـ «الشَّهيدِ» الذّي قَدَّمَ حياتَهُ لِنـحيا، ولِشُهَداءِ الحَقِّ فـي كُلِّ مكانِ وفـي كُلِّ زمــان.

ـ كُنْ سَيِّدَ نَفسِكْ، لِتَكونَ السَّيدَ على غَدِكْ، يَعني لِتُصبِحَ «المَشروعَ» فـي صِناعةِ شَخصِك، والإرتقاءِ بوَعيكْ.. تَحكُمُ نَفْسِكْ بِنَفْسِكْ وبحُرِّيَتِكْ.. لِتُحَدِّدَ البُعدَ الــذي اخْتَرتَ، لِوجودِكْ والمَعنى الإنسانيَّ الــذي أردتَ لِحياتِكْ.

وفـي «الدَيالكتِيّة»، قد تَبدو لَكَ بَعضُ الأُمورِ ساكِنَةً، وهي في الواقعِ الموضوعيّ، مُتَحَرِكَةٌ بِذرَّاتِها خارِجَ وَعيكَ وأدراكِكْ… كما قد تَتَداخَلُ في رؤيِتَكَ المَسافاتْ، وقَــد يُبطئُ «الزَّمَنُ النَّفسيُّ» أو قــد يُسرِعُ «هُـنَـيهاتْ» دونَ أن تَتَنَبَّه، أو دونَ أن تَشعُرَ بِذَلِكَ ، حَسْبَ «وَضعِكَ النَفسيّ»…

أما بِصَدَدِ المَوت: فقـد تَـتَعَدَّدُ التّفسيراتُ أوِ التَأويلات ولَكِـنَـكَ تَـعـلَمُ جـيـداً، أنّ «كِتابَ القَدَرِ» مَحتوم، وكُلُّ نَفْسٍ ذائقَةُ المَوتِ.. وكُلُّ جَسَدٍ إلى «جَدَث» وجمْعُها أجْداث وهي إلى اندثارٍ ذرَّاتٍ ذرَّات…

المَوتُ الحتميُّ، سَيُدرِكُكَ «مـؤجَّلاً» بِتَوافُرِ شُروطِهِ الموضوعيّة؛ أو بـِظُروفٍ ذاتيَّة إراديّة، كما فـي الشَّهادةِ «طَـوْعاً» عنـدما يَسْتَبِقُها الشّاهِدُ، أَوِ الشَّهيدُ في سِياق الجِهاد أمام «مَحكَمَةِ الحَقِّ» قَبلَ أن يُسْأَلَها،

أو قد يُداهِمُهُ المَوتُ بِطارئٍ خـارجٍ عـن إرادَتِهِ فيَخطِفُهُ الموتُ قَـبلَ أوانِ أجَلِهِ «المُسَمّى».

  • إنّما يَبقى «كتابُ القَضاءِ» فــي مَسارِ حياتَكِ رَهـناً بِحُرِّيِتَكَ وخِيارِك، ذَلِكَ أنّكَ أنت المسؤولُ الأوّلُ في تَنفيذِ صناعَةِ «المَشروعِ»، الذي اختَرتَ أن تَكون؟
  • ولَنْ أغوصَ في الفلسفات الدهرية والغيبيّة، أو فـي العلوم الفيزيائيّة، كأن يُقال إنّ ثَمَّةَ معاييرُ لأَبعادٍ ثُلاثيّةٍ فــي عالَمِنا، أو أنّ في عالَمِ الثَّقافَةَ، ثمة تساؤل عند أهل المعرفة هل صحيح أنّ الثقافة هي، في النِهايَة، كُلُّ ما تَبقى بعــد أن يَكـونَ المرءُ، قـــد نَسِيَ كُـــلَّ شيءٍ عَــرِفهُ وتَعَـلَّمَ مـــن قَبــلُ،

أو بِمَعنى أوْضَح… لا يَبقى مِــنَ الثَّقافَةِ في الذَّاكِرَةِ سِوى المَخْزونِ مِنها، وبالتّأمُّلِ والتَّفَكَّرِ والتّذكُّرِ، يَستَدعي المِرءُ من دِماغِهِ الأمُرَ الذي يَشاءُ فَيَحضُر؟

 أهذا مـا قَصَدَهُ أيضاً أهلُ عِلْمِ الطب وسائِرِ العلوم؟

ـ أيَتَراءى لَي الآن، فَرَضِيّاً، أنّهُ لم يَبقَ في ذِهني مـن «الأبعادِ الثَّلاثَةِ» السَّابِقِ ذِكْرُها إلّا البُعدَ الزَّمانيّ؟

وما هو هذا الزّمان؟! أهـو أَزليّ لا بداية له… أهو أبَديِّ لا نِهايَةَ لَه! وَما يُدريك؟

أَيَكونُ هذا الزَّمانُ حتى الآن، زماناً باتجاهٍ واحِدٍ كما الضَّوْءُ..

 يـَبدو لي اتِجاهُهُ السّريعُ دَوماً إلى الأمامِ مُستَقيماً لا يَعـودُ أبَـداً إلى الوراء؟ إلاّ انعِـكاساً فـــي الـذَّاكِرَة، كـما قـد تَحصُلُ انعِـكاساتُ أشِـعَّةِ الشَّـمس…

علـى وجوهِ المَرايا، أو علـى سُطوحِ البِحار بسُرعَةِ البَرقِ وتَختَفي… أم يا تُرى، ماذا يَحصل في حال لامَسَ «الشَّيءُ»… سُرعَة الضَّوْءِ في قَـطعِ الـمَـسافات؟

هل إذا قُدِّرَ «نَظَريّاً» أنِ الْتَحَمَ «الشَّهيدُ» بالضَّوْءِ في سُرعَـتِـهِ، لَتَخَلَّدَ؟

  • أوِ تَحَوَّلَ، بالحَقِّ، فوراً، إلى «نُورِ هِدايَةٍ» وتَجَلّى في اللَّيلةِ الظَّلماءِ بَدراً «أنور»؟

.. والله أعلـم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*وِجدانيّةٌ كُتِبَتْ بَعدَ إبلاغي نَبأَ اسْتِشْهاد ظافِر

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى