هل يهتمّ السياسيّون بفهم مسؤوليّاتهم الماليّة؟
ناصر قنديل
– من النادر أن يخوض أي متابع للشأن المالي حديثاً حول الأوضاع المالية مع أي مسؤول سياسي ويشعر بأنه يحظى بالإصغاء اللازم، أو أن محدثه سيجيبه على آرائه سواء أكانت دعوات لوقف سياسات أم اعتماد سياسات، وإن كان موضع ثقة سيكون سقف ما يسمعه هو دعوة لإدارة هذا الحديث مع مسؤول مالي في الدولة، وفي لبنان يعرف الخبراء أنهم غالباً ما كانوا يتلقون بعد كل دعوة للانتباه من الأخطار المالية، للذهاب الى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وسماع رأيه وردوده، وإن لم يأخذ رياض بما تقول فلا قيمة له عند أحد. وبقي الحال على هذه الصورة حتى بعدما انفجر الوضع المالي وبلغ حد الانهيار، وسادت نظرية أن إقالة حاكم المصرف تؤدي لانهيار أكبر، أو نظرية أن لا أحد يقيل ضباطه وقت الحرب، لكن بعيداً عن الإقالة وعدم الإقالة، هل يدرك المسؤولون السياسيون أنهم بدون معرفة وخبرة ورأي في الشؤون المالية سيكون من الصعب عليهم لعب دور صناع القرار في البلد الذي يتحملون فيه مسؤوليات كبرى، وسيبقى صانع القرار الحقيقي سياسياً وأمنياً واجتماعياً واقتصادياً، هو صانع القرار المالي والنقدي؟
– مصدر هذا الكلام هو ما يجري على ساحة الملفات المالية والنقدية، حيث يدير حاكم مصرف لبنان كل الأزمات المتداخلة والمتشابكة عبر بوابة واحدة، هي طباعة المزيد من الأوراق النقدية، فيعوّض عبرها نقص واردات الدولة وعجزها عن تمويل نفقاتها، ويؤمن عبرها توفير السيولة اللازمة لتصفية تدريجية للودائع بأسعار مصطنعة تفقدها قيمتها الحقيقية مستغلا حاجات المودعين المتتابعة لاستعمال ودائعهم لضرورات الحياة، لكن ناتج هذه الطباعة للأوراق النقدية هو الانهيار المتلاحق في سعر الليرة أمام الدولار، وقد بلغت الكتلة النقدية خمسة أضعاف ما كانت عليه مع بدء الأزمة، بينما تراجع إجمالي الناتج المحلي الى أقل من 40% مما كان عليه، أي كان مرتين ونصف المرة ما كان عليه عام 2021، ما يعني تراجع الدورة التداولية لليرة أكثر من عشر مرات، إضافة للتراجع الناتج عن حلول الدولار مكان الليرة في التداول، وطباعة النقد التي تناط بمصرف لبنان، في ظروف عادية تتحوّل الى جوهر السياسة العامة للدولة في ظرف استثنائي كالذي نحن فيه، لأنه وحده، وعشرة خطوط حمراء تحت وحده، القيمة الفعلية للرواتب والأجور، والقدرة الشرائية لليرة، والاستقرار الاجتماعي، ومصير الوضع الأمني الناتج عن كل ذلك، ولذلك ذهبت دول العالم في أزمات مشابهة الى نزع قرار طبع العملة من يد المصرف المركزي وشكلت مجلساً خاصاً للنقد يجب الحصول على إجازته عند طباعة كل كمية اضافية من الأوراق النقدية، بعد التحقق من تناسب هذه الكمية مع كمية الإحتياط من العملات الصعبة لدى المصرف المركزي صعوداً وهبوطاً بالنسبة والتناسب.
– اذا كان المسؤولون في الدولة يخشون السير بمجلس للنقد كالذي فعلته دول مثل هونغ كونغ، لأن التشاور حول الفكرة بعدما تحمّس لها بعض المسؤولين، كشف أنها ستجلب غضب حاكم المصرف، وبعدما حاول الفرنسيون التوصل مع الحاكم لحل وسط حول الفكرة فسمعوا من الحاكم رفضاً مطلقاً، وجاء الجواب بتنظيم حملة لعدد من الخبراء يسوّقون لنظرية استقلالية المصرف المركزي وليس تقييده، لذلك تم صرف النظر عن الفكرة، لكن يبقى السؤال أليس من المنطقي بالحد الأدنى تقييد حجم الزيادة المسموح للمصرف المركزي إدخالها على الكتلة النقدية، وإلزامه عند الحاجة لأي زيادة بالتوجه لطلب قانون يجيز ذلك، تماماً كما يتم تمويل عجز الخزينة، بموجب قانون الموازنة، وعندها تتحمل السلطات الدستورية، من رئاسة جمهورية ومجلس نواب وحكومة، مسؤولية القرار وتداعياته؟
– التلكؤ يعني تنازلاً عن صلاحيات دستورية فطباعة النقد اليوم تحل مكان الإستدانة الداخلية والخارجية وتمويل العجز، وكلها يفترض ان تتم بقوانين، بينما طباعة الأوراق النقدية اليوم تتم بتوقيع الحاكم، الذي يصير بموجب هذا التوقيع حاكماً للبنان وليس لمصرف لبنان، عدا النتائج الكارثية لهذا الحكم، بانهيار مريع للعملة الوطنية، يدفع كل اللبنانيين ثمنه، وهو يطبق على مودعي المصارف قاعدة مودع لدى مصرف في حال الإفلاس، لكنه لا يعامل المصرف المعني وفق هذه القاعدة.