البازار الأميركي: النفط والغاز ومشهدية كابول اللبنانية
} خضر رسلان
يمتاز لبنان بخلاف الكثير من دول العالم بميزتين أساسيتين لم تفلح الفتن والمناوشات والاستحقاقات ان تغيّر واقعهما؛ الميزة الأولى هي أنَّ لبنان حاضن للملفّات المعقّدة والساخنة إقليمياً ودولياً، والميزة الثانية هي انّ قواه في تناقض عموديّ وأفقيّ في أكثر الملفات سواء منها أكانت في التعريف أو التطبيق لأبرز عناوين المواطنة والتي في حدّها الأدنى ينبغي أن تحمل في طياتها قواسم مشتركة كمفاهيم الاستقلال والحرية والسيادة، وتكاد تكون الدولة اللبنانية من الأندر بين دول العالم التي تختلف مكوناتها في تعريف وتطبيق هذه القيَم مما سينعكس بالضرورة على الواقع والمشهد السياسي برمّته، وهو سبب جوهري لجعل الوطن فاقداً للأمن والاستقرار والتنمية بل هدفاً سهلاً واستراتيجياً للقوى الكبرى وعاملاً مساعداً لهيمنة أو زيادة نفوذ هذه القوى. وهذا ما ظهر جلياً على اثر ازدياد الاهتمام بمنطقتنا باعتبارها منطقة غنية بالنفط والغاز، إذ يقدّر تقرير لهيئة المسح الجيولوجية الأميركية عام 2010 وجود 3455 مليار متر مكعب من الغاز و1.7 مليار برميل من النفط في هذه المنطقة (منطقة شرق المتوسط ومن ضمنها لبنان.كما تمثل هذه المنطقة أبرز نقاط عبور البترول والغاز من الشرق الأوسط إلى دول الاتحاد الأوروبي، إذ إنها تطل على ثلاث قارات).
هذه المتغيّرات أدّت الى خلط أوراق ورسم تحالفات ونشوء صراعات أعادت ترتيب الأولويات، ومن أجل وضع اليد على أكبر مساحة من النفط والغاز وبتشجيع من الولايات المتحدة أنشئ مطلع عام 2019 إطار أوّلي للتعاون الإقليمي باسم «منتدى غاز شرق المتوسط»، والذي يضمّ مصر وقبرص واليونان و(إسرائيل) وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية (بغياب لبنان) من أجل تعزيز العمل المشترك لنقل الغاز الطبيعي الى أوروبا عبر خطوط الأنابيب تحت الماء.
من هنا تظهر أهمية لبنان للولايات المتحدة في أمرين: الأول في فرض الهيمنة الأميركية وزيادة النفوذ في منطقة تحوي الممرات التي يمكن استخدامها لمدّ أنابيب النفط والغاز، والثاني في منع روسيا والصين، من ترتيب مكان لهما في المعادلة الجيوبوليتيكية الجديدة.
ـ الصراع على الطاقة ينعكس أزمات محلية وإقليمية واعادة ترتيب للاولويات:
1 ـ ازمات محلية: تشكل خطوط نقل الغاز أحد أهمّ مسبّبات النزاع بين الدول الكبرى، وبالتالي فإنّ مفاعيلها تترجم أزمات محلية وإقليمية، وهذا ما ظهر جلياً في سورية ولبنان، حيث الصراع الدولي على مصادر الطاقة وخطوط نقلها تُرجمت أزمات محلية وإقليمية ذات طابع دولي.
2 ـ ثوابت الاستراتيجية الأميركية تعيد ترتيب الأولويات
الاستراتيجية الميكيافلية البراغماتية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية الثابت فيها خدمة مصالحها بغض النظر عن مصالح دول المنطقة، وبناء على ذلك ليس لديها وفاء للأصدقاء سواء اكانوا حكاماً أو نخباً أو غير ذلك، وهي لا تكترث بالتعامل مع من يستطيع المحافظة على مصالحها بغضّ النظر عن الأيديولوجيات، أو أشكال الحكم، أو المثاليات السياسية. والمرتكزات الحقيقية غير المعلنة للسياسة الأميركية في المنطقة هو خلق بيئة سياسية غير مستقرة، مع زيادة النعرات الطائفية، والحروب الأهلية، والصراعات الإقليمية على أسس عرقية أو قومية أو مذهبية، واستخدام ذلك كورقة للعب بها في الوقت المناسب، ويتأتى ذلك من خلال تقديم عروض للأطراف المناوئة لها من أجل تسهيل تنفيذ استراتيجيتها التي تتركز حالياً على اكتشافات النفط والغاز واحتواء تنامي الدور الصيني والروسي، وقد بدا ذلك من خلال محاولات التواصل مع حزب الله وتقديم عروض له دون اكتراث لمصير أدواتهم في لبنان، ويظهر ذلك من خلال أمرين اثنين:
أ ـ في إطار الثابتة الأميركية بحماية أمن الكيان الصهيوني جرت محاولة فاشلة كشفت عنها قيادة حزب الله، كان ذلك قبل حرب تموز 2006 عنوانها الأساسي الانكفاء عن دعم مقاومة الشعب الفلسطيني مقابل مغريات يطمح إليها كلّ اللاهثين خلف السلطة والتسلط وتشمل اليد العليا في السلطة في لبنان والاحتفاظ بالسلاح إضافة الى مغريات أخرى، وقد جرت لاحقاً أحداث بدّلت الأولويات الأميركية كان أبرزها معادلة الردع التي فرضتها المقاومة اثر حرب تموز، فضلاً عن تنامي قدرات محور المقاومة المترافقة مع فشل إسقاط سورية والعدوان على غزة ودخول سلاح المسيّرات والصواريخ الذكية التي أعادت خلط الأوراق والأولويات بحيث انتفت معها إمكانية ضمان حماية أمن «إسرائيل» الثابتة الأساسية في الاستراتيجية الأميركية، وبقي العمل على الثابتة الأخرى وهي الاستحواذ على الاكتشافات الجديدة للغاز والنفط والسعي لإيجاد خطوط إمداد بديلة في إطار الصراع مع روسيا والصين.
ب ـ البازار الأميركي: بناء على مفاعيل الإطار الإقليمي للتعاون المسمّى «منتدى غاز شرق المتوسط»، الذي أنشئ مطلع عام 2019 برعاية الولايات المتحدة الأميركية والهادف الى تعزيز العمل المشترك لنقل الغاز الطبيعي الى أوروبا عبر خطوط أنابيب تحت الماء والتي تعتبر الجغرافيا اللبنانية إحدى أهمّ مفاتيحه، سواء كان من ناحية الممرات المائية او من حيث كميات الغاز الكبيرة المتوقّعة ونظراً لعوامل القوة المقتدرة التي تمثلها المقاومة فإنّ الاستراتيجية الميكيافيلية البراغماتية التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية لا تجد حرجاً في التخلي عن مجموعات مما يسمّى نخباً ومتزعّمين فاقدي الصلاحية والمصداقية، وبالتالي فإنّ الأميركي المحاصر للشعب اللبناني منذ سنوات والذي يشنّ في الظاهر حرباً تحت عناوين مختلفة، إنما يهدف الى فتح كوة مع المقاومة يتكرّر فيه ما تمّ عرضه سابقاً بسط اليد الطولى في الحكم والاحتفاظ بالسلاح على ان يتمّ تسهيل أمر ترسيم الحدود وتصدير الغاز، ولا يجد الأميركي ضيراً ولا حرجاً من أجل تحقيق ذلك أن يرى العالم مجدّداً ما جرى من مشاهد فرار في كابول ولكن بنسخة جديدة على أرض مطار الرئيس رفيق الحريري في بيروت.