الناصريون في الذكرى الـ 104 لميلاد الرئيس…
د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي أتحدث فيها عن ماهية الناصرية والناصريين، فقد تحدثت كثيراً في هذا الموضوع عبر كلّ وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية سواء الإعلام التقليدي (صحف ـ إذاعة ـ تليفزيون) أو الإعلام الجديد (السوشيال ميديا)، لكن الذكرى الـ 104 لميلاد الرئيس التي حلت هذا الأسبوع هي المناسبة التي دفعتني لمعاودة الكتابة من جديد، خاصة أنّ هذه المناسبة مثلها مثل العديد من المناسبات المرتبطة بمسيرة الزعيم، يتجه كلّ مَن يدّعي أنه ناصري صوب الضريح، وكأنّ الذهاب للضريح هو من يمنح صك الانتماء للناصرية، وفي الضريح تشهد مهازل حيث يتسابق الجميع ليقف تحت صورة الزعيم في مدخل الاستراحة الملحقة ليلتقط الصور التذكارية، ثم يقوم بنشرها على صفحات التواصل الاجتماعي ليعلن عن ناصريّته. وهذا العام شاهدنا صراعاً وتلاسناً كاد أن يصل إلى حدّ التشابك بالأيدي بين من يدّعون أنهم قيادات ناصرية.
وهذه الصورة المزرية جعلتني أعيد السؤال هل هؤلاء ناصريون حقاً؟! وفي محاولة الإجابة على هذا السؤال كان لا بدّ من فضّ الاشتباك حول ماهية الناصرية والناصريين، وفى البداية لا بدّ من التأكيد على أنّ الناصرية هى تلك التجربة التي صنعها الرئيس جمال عبد الناصر عبر ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 والتي أعلنت ستة مبادئ أساسية شكلت البذور الجنينية للمشروع الفكري لجمال عبد الناصر وهى: (القضاء على الإقطاع ـ القضاء على الاستعمار ـ القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم ـ إقامة جيش وطنيّ قويّ ـ إقامة عدالة اجتماعيّة ـ إقامة حياة ديمقراطية سليمة).
وبالطبع قام جمال عبد الناصر ببلورة مشروعه عبر ثلاثة محاور رئيسيّة لتحقيق التقدّم والتنمية الشاملة، من خلال الحرية والاشتراكية والوحدة باعتبارها مرتكزات رئيسية للنهضة، ومن خلال المبادئ الستة للثورة والمحاور الثلاثة للتقدّم والتنمية الشاملة تشكلت المعالم الرئيسيّة للتجربة الناصرية التي أعلن جمال عبد الناصر أنها خاضعة للتجربة والخطأ عبر الممارسات الواقعية اليومية، وهو ما يميّز تجربة جمال عبد الناصر عن التجارب المستمدّة من النظريات الفكرية الغربية التي يتعامل أنصارها على أنها مسلّمات في قوالب جامدة، لذلك ظلّ يصحّح من أخطاء تجربته حتى اليوم الأخير في حياته.
وبعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر جرت الردّة على مشروعه وتجربته منذ مطلع السبعينيات. وهنا بدأت تتشكل مجموعات للمقاومة سواء داخل مصر أو خارجها، تمسكت بمشروع جمال عبد الناصر وتجربته القائمة على المبادئ التي أرساها عبر ثورته، والمحاور الرئيسية لمشروع التقدم والتنمية الذي وضعه، وأطلقت مع الوقت هذه المجموعات على نفسها اسم الناصريّة، أي الأشخاص الذين يؤمنون بأفكار ومشروع وتجربة جمال عبد الناصر.
إذن يمكننا الآن تعريف مَن هم الناصريون؟ فالشخص الذي يدّعي أنه ناصريّ لا بدّ أن يكون على وعي تام بمبادئ جمال عبد الناصر ولا يخرج عن هذه المبادئ التي أرساها عبر مشروعه وتجربته. فالناصري ضدّ الإقطاع وسيطرته بكافة أشكاله القديمة والحديثة. والناصري ضدّ الاستعمار بكلّ أشكاله القديمة والحديثة، والناصري ضد سيطرة رأس المال على الحكم بمختلف أشكالها القديمة والحديثة. والناصري مع جيشه الوطني يدعمه ويقويه في مواجهة أعداء الداخل والخارج. والناصري مع العدالة الاجتماعية منحازاً للفقراء والكادحين والمهمشين في كلّ مكان، كما كان زعيمه، والناصري مع الحياة الديمقراطية السليمة القائمة على تمكين المواطنين جميعاّ من مباشرة حقوقهم الدستوريّة والعيش بكرامة في وطنهم. والناصريّ مع حرية الإنسان داخل مجتمعه وفقا للدستور والقانون وضدّ أي فعل يمسّ هذه الحقوق والحريات. والناصري مع الاشتراكية باعتبارها آلية لمنع الاستغلال داخل المجتمع ووسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية. والناصري مع الوحدة العربية باعتبارها آليّة لمواجهة التكتلات الإقليمية والدولية الكبرى.
هذا هو التعريف العلمي للناصري وهو تعريف إجرائي يعتمد على مجموعة من المؤشرات التي يمكن قياسها في الواقع. فمن تتوافر فيه هذه المقومات فهو ناصري أما مَن يفقد شرطاً من هذه الشروط فلا يمكن أن نطلق عليه هذا المسمّى. ومن هنا يمكن لكلّ شخص يدّعي أنه ناصري أن يحكم على نفسه عبر هذه المؤشرات التي جاءت في التعريف العلمي للمفهوم وبذلك نتخلص وبشكل نهائيّ من فوضى المسمّيات، وبالطبع ما ينطبق على الأشخاص ينطبق على المجموعات والتنظيمات والأحزاب التي ترفع راية الناصرية أو تحمل اسم الناصرية. ومن المؤكد أنّ تطبيق شروط المفهوم في الواقع سوف يكشف الجميع، ويحدّد الموقع الحقيقي لكلّ من يدّعي أنه ناصري سواء كان فرداً أو مجموعة أو تنظيم.
فلا يمكن أن يكون ناصرياً مَن يدعم الإقطاع، أو يهادن ويطبّع مع الاستعمار، أو يسكت على سيطرة رأس المال على الحكم، أو يهاجم جيشه الوطني، أو يصمت عن غياب العدالة الاجتماعيّة، أو لا يثور في مواجهة الاستبداد وعدم إقامة حياة ديمقراطية سليمة، أو مَن يقبل بفقدان حرية الإنسان، أو مَن يقبل بعدم تطبيق الاشتراكية لإقامة العدالة الاجتماعية ومنع الاستغلال، أو مَن لا يدعم الوحدة العربية ويقف صامتاً أمام ما يحدث في فلسطين والعراق ولبنان وليبيا واليمن وسورية من مخططات للتقسيم والتفتيت، أما الذهاب للضريح والتقاط الصور ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي فلا تمنح صكّ الناصرية، فغالبية مَن يزاحمون لالتقاط مثل هذه الصور في المناسبات المختلفة لا يمتون للناصرية بصلة، بل هم جزء من المؤامرة على المشروع الناصريّ. اللهم بلغت اللهم فاشهد.