الدور التركي… والسياسات البينية!
} فاديا مطر
منذ التدخل التركي في الحرب على سورية في العام 2011، والدخول التركي الى شبكة التقاطعات الدولية التي حكمت المنطقة، باتت أنقرة على أبواب فقدانها أوراق سياسية وعسكرية وحتى دينية كانت تأمل منها تدوير استراتيجية «العثمنة» وتتريك المحيط الجيوسياسي على أسس حكم حزب العدالة والتنمية الحاكم بعقلية السياسة والإيديولوجيا، لكن ذلك الحيّز لم يمنح تركيا البعد «الإخواني» المرغوب لتعمير توسعها، ولا البعد الأطلسي المطلوب كشريك لواشنطن وحلفائها في معادلات المنطقة، فهي باتت بحاجة الى تدوير سياستها واستراتيجية التواجد من خلال خطوات بينية اعتمدت فيها أنقرة على تقاطعات المصالح الفردية بكلّ الاتجاهات لكنها وقعت في دائرة الانتقاد الدولي وزعزعة مصالحها، لتحاول أنقرة عبر سياتها البينية تعزيز الموقع الذي يطمح إليه الحزب الحاكم برغم كلّ الفشل الذي توازى مع تلك السياسة، لكن وضعها الإقليمي يقبع تحت ضغوط كبيرة جُلها يقع في العلاقة مع الولايات المتحدة، والحيّز الغير قليل يقع مع روسيا وشركائها حتى مع الصين.
بل انّ الوضع التركي أصبح عدائياً مع مجمل المحيط من شرق المتوسط وصولاً الى القارة الأفريقية وليس نهاية بأفغانستان والخليج، حيث أنّ تركيا التي فشلت حتى الآن في ترؤس الملف الكردي مع واشنطن، بقيت تحت الاضطراب مع ميليشيات «قسد» المدعومة أميركياً كونها تقع على خارطة تركيا الرافضة «للفدرلة الكردية» على حدوها الجنوبية، وفشل الفصيل الانفصالي في أن يكون ورقة رابحة أميركياً بعد رفض الكونغرس في 15/ كانون الأول المنصرم إدراج بند في ميزانيته لتمكين «قسد» من الاستغناء عن الدعم الأميركي مما تركها رهينة بيد واشنطن وتحت سندان تركيا ومطرقة مجموعاتها الإرهابية، حيث تفقد تركيا أيضاً مقعدها الإقليمي تدريجياً، لم يسعفها المقعد الدولي بالكثير، وذلك على خلفية التوتر مع أوروبا في منطقة شرق المتوسط والقارة الأفريقية، فأنقرة ترى في أفريقيا هدفاً أوسع من كونها مصدراً اقتصادياً، وهي تعتبرها مكسباً للطرق الاستراتيجية البرية والبحرية وخصوصاً في البحر الأحمر للوصول الى مناطق تعدّها تركيا بوابة للاقتصادات الناشئة لتصريف المواد الخام برغم المنافسة الكبيرة من دول الشرق الأوسط وأوروبا، فهي هنا تعزز السياسة البينية مع أهمّ لاعب في أفريقيا بتحيّزها له وهو الولايات المتحدة، والتي تراجعت مؤخراً عن تمويل مشروع ربط طاقة شرق المتوسط بأوروبا المقدّر بمبلغ ستة مليارات دولار واستبداله بمشروع الربط الكهربائي من مصر الى جزيرة كريت الى اليونان، وإعادة التفكير بمشروع «إيست ميد» النفطي الذي كان مقرّراً من حقول شرق المتوسط ما بين الكيان الصهيوني ومصر وقبرص، والذي كانت تعارضه تركيا بشدة، حيث كانت ترى أنقرة فيه ثغرة تحاصرها اقتصادياً وسياسياً، لكن اللعب على الاستراتيجية البيّنية لم يتوقف عند العلاقة مع أوروبا وواشنطن، فقد تردّت العلاقة مع الصين بعد التدخل التركي في قضية «الإيغور» عبر مؤتمر عُقد في اسطنبول في نهايات العام المنصرم لتسمية مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية بإسم «منظمة الدول التركية» ونشرت خلاله خريطة ما يسمّى «العام التركي» وفيها إقليم شينجيانغ موطن الإيغور، مما قد يجعل الصين باباً مفتوحاً دولياً على استعراض التدخل التركي في العراق وسورية وحتى القضية الكردية، فقد امتدت السياسة التركية الى مطار كابول وإدارته بعد الخروج الأميركي من أفغانستان بالشراكة مع قطر مما تعتقده السياسة التركية تقارباً مع واشنطن لتعويض الحلقة المفقودة في العلاقة على خلفية صفقات منظومات الصاروخية مع روسيا، والتي تشققت فيها العلاقة بين الحليفين الأطلسيين، حيث تحقق تركيا من خلال مقعدها في كابول هدفين هما الخطوة الجيوسياسية لإثبات التواجد والرغبة في زيادة الشراكة مع واشنطن وحلفائها على المستوى الدولي، إلا أنّ واشنطن ترى في قطر ساحة أقوى من تركيا خصوصاً بعد استضافة قطر للمكتب السياسي لحركة طالبان في العام 2013 والذي أفضى إلى اتفاق مع واشنطن في العام 2020 بما يعزز لقطر حضورها الدولي عبر استغلالها لثروتها من النفط والغاز في توسيع مجالها السياسي.
لتتجه تركيا مجدداً نحو الفشل عبر فقدان أردوغان للشعبية الداخلية والسياسية بحسب ما نقلته صحيفة «زمان» التركية في 15 كانون الثاني الحالي بأنّ هناك ستة أحزاب تخطط للالتحاق بالأحزاب المعارضة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، ومعلومات عن استقالة ما يقارب الألف عضو حتى الآن من العدالة والتنمية والتحاقهم بحزب الشعب الجمهوري وحزب الخير المعارضَيْن، فهو الحمل الأثقل لأردوغان بعد التردّي الاقتصادي وسعر صرف الليرة وازدياد التضخم المالي والقدرة الشرائية المحلية، فضلاً عن الغضب الشعبي الداخلي من السياسة الأردوغانية تجاه حوادث التفجيرات والجريمة التي تحدث والتكتم عليها وعدم الإفصاح عنها من قبل السلطات التركية وحتى من قبل دوائر التحقيق في وزارة الدفاع التي تحقق فيها، وذلك بسبب السياسة التركية في تبني أنقرة لمجموعات إرهابية في الشمال السوري ودعم التقارب بين فصيل «الجولاني» وباقي الفصائل الإرهابية لدمجهم وتصديرهم بإسم «المعتدلين»، وذلك بسبب الاقتتال الدائم على العابر والمسروقات والسيطرة، مما جعل الداخل التركي بيئة معقدة وخطرة ومجال مفتوح نحو الإهتزاز، فالسياسة البيّنية والاستراتيجية المتردّية للحزب الحاكم في تركيا يترقب حالياً العلاقة بين موسكو وواشنطن على خلفية النزاع في أوكرانيا ويرى فيه فسحة للقفز الى إحدى الضفتين حتى في توتر كازاخستان التي تخشى تركيا مشاركة الجيش الأرميني في معسكرها مستقبلاً مما جعلها تسارع لعقد تحالف تطبيع العلاقات معها لإنقاذ الخطوط العريضة في أذربيجان، فهل ستستمرّ أنقرة في استراتيجيتها البينية وتناسيها الداخل المشتعل؟ أم أنّ آخر حجر في جدار الاستعلاء العثماني قد يسقط في أيّ وقت؟