أولويّات بوتين ورئيسي وبينغ في التحالف الاستراتيجيّ: مواجهة الهيمنة الأميركيّة على الإنترنت والنظام المصرفيّ
ناصر قنديل
– خلال العقدين الماضيين من القرن الحادي والعشرين، خاضت كل من روسيا والصين وإيران، مسارات مختلفة في الصعود الى منصة الدولة الفاعلة الكبرى في السياسات الدولية، ومسارات مختلفة في مشاريع التنمية الاقتصادية، وبناء القدرة العسكرية، كما خاضت كل منها مواجهات ضارية مع مشروع الهيمنة الأميركية الصاعد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين عام 1990، والمنتقل الى حسم السيطرة على آسيا منذ عام 2000. وهو العام الذي دخل فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى الكرملين رئيساً لروسيا، آتياً من خلفية أمنية واستراتيجية تحلم باستعادة أمجاد الدولة العظمى بعد عشر سنوات من التيه والتراجع؛ بينما كان الرئيس الصيني شي جيبنغ بينغ يشق طريقه نحو ادارة مقاطعة شانغهاي التي سجلت النهوض الاقتصادي التاريخي للصين، وصولاً لقيادته حملة مكافحة الفساد، قبل نجاحه بتولي أعلى مناصب الحزب والدولة بصورة كاملة عام 2015، فيما كان السيد ابراهيم رئيسي يتقدم في المناصب القضائية الرفيعة ترافقه سمعة مكافحة الفساد وحماية الدولة والثورة من الاختراقات الأجنبية، قبل أن يتبوأ رئاسة السلطة القضائية وصولاً لرئاسة الدولة.
– النهوض الاقتصادي وبناء القوة العسكرية والنهوض بجهاز الدولة بعيداً عن الفساد، نقاط يتشارك فيها قادة دول آسيا التي كتبت هزيمة الهيمنة الأميركية على آسيا بأيديها، حيث قطعت روسيا خلال عقدين بقيادة بوتين الشوط اللازم لحجز مقعدها الثابت منذ عام 2015، مع تموضعها للمرة الأولى خارج الحدود، وانخراطها الكامل في مواجهة الحرب على سورية، بعدما حسمت أمرها بوجه التهديدات الأميركية الآتية من بوابة أوكرانيا بضمها شبه جزيرة القرم، ونهضت بمد أنابيب الغاز الى أوروبا بين السيل الجنوبي والسيل الشمالي لتحتل مركز العالم في سوق هذه السلعة الشديدة الحيوية، وامتلكت نظاماً تقنياً شديد التطور في ترسانتها العسكرية اعترف الأميركيون بتفوقه النوعي على السلاح الأميركي، وترجمت شبكة صواريخ الـ أس 400 المترابطة على مساحة آسيا واحدة من أبرز سير التفوق العسكري الروسي، بينما نجحت الصين بحجز مقعد مواز بتقدم اقتصادي ثابت ونمو صاعد، وبلوغ حجم اقتصادها المرتبة الثانية في العالم ومزاحمتها على المرتبة الأولى، ووضعت خطة الحزام والطريق لربط اقتصادها باقتصادات العالم وقطعت فيه شوطاً كبيراً عبر آسيا، وتفوقت على التقنيات الغربية في قطاع الاتصالات وامتلكت موقع القيادة في التحول نحو الجيل الخامس، وسجلت نجاحاً كبيراً بالسيطرة على قطاعات صناعية ثقيلة عالمياً منها قطاع صناعة الملاحة البحرية وادارة الموانئ وتجهيزاتها، وقدمت نموذجها المستقل لوسائل التواصل الاجتماعي المنافسة للتطبيقات الأميركية عبر تطبيق تيك توك الذي تصدّر المرتبة الأولى على حساب كل المنافسين الكبار، بينما نجحت بتقديم نموذج عالمي فريد في إدارتها للمعركة مع جائحة كورونا لتنتقل من البلد الأول في الإصابات والتفشي على مستوى العالم، إلى البلد الأول في القدرة على محاصرة الوباء.
– بالتوازي مع روسيا والصين، الواقعتين على طرفين متقابلين من آسيا شرقاً وشمالاً، كانت إيران التي تحتل موقع القلب في آسيا بحدود مشتركة برية وبحرية مع أكثر من ست عشرة دولة، تنهض بقيادة الإمام الخامنئي ورؤيته الاستراتيجية بتنمية اقتصادية تعتمد على التصنيع وتطوير الزراعة وتوطين التقنيات الحديثة، وتعتمد الابتكار الوطني وتشجيع البحث العلمي مساراً ثابتاً للنمو، فجاء تقدّم ملفها النووي ثمرة بارزة له، وتبني بالتوازي قدرة عسكرية صاروخية متميزة من حيث الحجم والعدد والنوعية والمدى، وتتحمل أعباء دعم ثابت لحركات المقاومة التي تصاعد حضورها في لبنان وفلسطين والعراق واليمن، فنجحت بالتعاون مع سورية بضمان هزيمة مقاومة حزب الله لـ”إسرائيل” مرتين عامي 2000 و2006، وضمنت نجاح المقاومة في غزة بإلحاق هزائم متكررة بالجيش “الإسرائيلي”، وفازت بنجاح باحتواء الاحتلال الأميركي للعراق وصولاً لتحويله مأزقاً كبيراً، بالتوازي مع احتوائها بالتعاون مع روسيا والصين للاحتلال الأميركي لأفغانستان وتحويله الى عبء فرض في النهاية قرار الانسحاب الأميركي الذي شكل اعترافاً كبيراً ببداية عصر الفشل الأميركي في آسيا، بعدما كان الانخراط الأميركي في الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 اعترافاً مبكراً بالفشل، قبل ان تنسحب واشنطن من الاتفاق وتنخرط بما أسمته سياسة الضغوط القصوى. وها هي اليوم تعود لتفاوض على التراجع تسليماً ثانياً وثابتاً بالفشل بعد انسحابها المهين من أفغانستان.
– شكلت الحرب الأميركية على سورية آخر حروب أميركا لفرض مشروع الهيمنة على آسيا. وقد حشدت لها واشنطن أكثر من مئة دولة، وجنّدت لها كل الحلفاء، وصولاً لجمع “إسرائيل” وتنظيم القاعدة في جبهة واحدة على حدود الجولان، والسعودية وقطر وتركيا في جبهة مشتركة، والوهابية والأخوان معاً، ورصدت لها أموالاً طائلة وأعمالاً مخابراتية شديدة التعقيد، واستخدمت كل نفوذها في دول الجوار لسورية. وبالمثل شكل الفشل الأميركي في سورية أول ترجمة للعجز الأميركي عن فرض مشروع الهيمنة، وكان للتعاون الروسي الإيراني دور فاعل في صناعة هذا الفشل الأميركي. وبالتوازي كانت واشنطن وهي تستشعر خطر الصعود الاقتصادي الصيني تدرك ان عليها وقف حروب الاستنزاف العسكرية والعودة لما وراء الحدود للالتفات الى كيفية استعادة ما يسمّيه قادتها بأميركا العظيمة قبل التورط في حروب الدفاع عن موقع أميركا العظمى، وفيما تجد أميركا نفسها عالقة بين المعادلتين، تنجح ثلاثية روسيا والصين وإيران في الجمع بين خطط النهوض، وخطط المواجهة، وتستشعر موسكو وبكين وطهران، الحاجة للانتقال الى مرحلة جديدة من التنسيق بل التكامل، سواء في قطاع الطاقة أو التبادل التجاري أو التنسيق السياسي والعسكري، لكن التحدي الذي يواجه الثلاثي هو التحول الى مرجعية دولية موازية لمرجعية الغرب. وهنا تحضر قضيتان مهمتان تشغلان جداول أعمال القادة لمواجهة عناصر القوة الباقية للهيمنة الأميركية، الأولى تحدي الإعلام وشبكة الإنترنت وتقنيات المعلومات، والثانية تحدي النقد والنظام المصرفي، بحيث إن بناء منظومة مستقلة في المجالين عن السيطرة الأميركية باتت تشكل نقطة الفصل في الجواب على إمكانية الانتقال الى نظام عالمي جديد، وبمثل ما حملت روسيا وإيران الأعباء الأكبر في إسقاط الهيمنة السياسية والعسكرية الأميركية سيكون على عاتق الصين الدور الأكبر في كسر الهيمنة الأميركية على الإنترنت والنظام المصرفي.
– الاتفاقات الثنائية للتعاون الاستراتيجي التي وقعتها روسيا والصين وإيران وتتجه روسيا وإيران لتوقيعها، تشكل نواة نهوض قيادة جديدة للعالم تضع حداً لعصر الهيمنة، وتفتح الباب لعهد الاستقلال الوطني لدول انضوت مع اطراف الثلاثي بعلاقات مختلفة ودفعت فواتير الصمود بانتظار هذه اللحظة التاريخيّة انطلاقاً من آسيا وصولاً لأفريقيا وأميركا اللاتينية، سواء من شكلوا حلف البريكس أو شانغهاي او منظمة التعاون الجماعي أو سواها من التحالفات الثنائية، كما بين روسيا وسورية وسورية وإيران.