ماذا لو عاد ترامب؟ (2)
سعادة مصطفى أرشيد _
حسب ما يرى علم الديالكتيك القديم أنّ مسار الزمن يسير كالنهر. فالماء يجري دوماً باتجاه واحد، نحو البحر ولا يمكن له العودة بالاتجاه المعاكس. أضاف كارل ماركس في نسخته من الديالكتيك، أنّ الزمن من الممكن أن يتكرّر مرتين فقط، الأولى على شكل ملهاة والثانية على شكل مأساة. اتفق كثيرون جزئياً مع مقولة ماركس هذه، ولكنهم رأوا أنّ الحدث قد يتكرّر مرات عديدة وقد تتبدّل مواقع الملهاة والكوميديا لتتأخّر عن المأساة التراجيدية .
فأيّ من ولايتي ترامب ستكون الملهاة؟ وأيها ستكون المأساة الأولى أم تلك التي قد تأتي في وقت ليس ببعيد؟ من شبه المؤكد أنّ ترامب في حال عودته سيبقى على التزامه بالترامبية، وإنْ كان لا أحد يستطيع الجزم. ثم أنّ السنوات الثلاث بانتظار الانتخابات الأميركية المقبلة في زمن أصبحت السرعة من سماته قد تغيّر الكثير مما بين أيدينا من معلومات وتخمينات. إنما يجوز الافتراض والتوقع، فهل سيكون ترامب قد أدرك مقادير قوة الدولة العميقة في بلاده وسيسعى للتفاهم معها؟ أم أنه سيبقى على اشتباكه معها مدعوماً بجمهور ناخبيه البيض؟ وفي المجال الخارجي سيكون أمامه عالم جديد قد اختلف عن ذلك العالم الذي تعاطى معه في ولايته الأولى، عالم قد ساهم في صنعه غريمه ونقيضه جو بايدن، عالم قد غادره حليفه السابق وخذله مؤخراً نتنياهو، كما مستشارة ألمانيا القويّة أنجيلا ميركل، وقد يكون قد غادر موقعه ماكرون فرنسا وجونسون إنجلترا ورجب طيب أردوغان وغيرهم، عالم تكون إدارة بايدن قد أبرمت فيه اتفاقاً مع طهران، عالم تكون الصين قد أطبقت فيه على طريق الحرير وروسيا قد أتمّت العمل على خط غاز شمال البلطيق، عالم قد لا يكون ـ أو قد يكون النظام الصحي العالمي قد وجد طريقة للتعاطي مع جائحة كورونا ومتحوّراتها. عالم تكون قضايا الطاقة والبيئة والتكنولوجيا قد أصبحت أكثر إلحاحاً، فكيف ستتعامل النسخة الترامبية الثانية مع كلّ ذلك، وكما مع مسائل شرقنا الحزين؟
على صعيد أوروبا الحليف التقليديّ، سيعود للتعاطي معها بمنطق أميركا أولاً وثانياً وثالثاً، وهي ليست نداً أو شريكاً وإنما هي ملحق بالولايات المتحدة، قد تتغيّر بعض التفاصيل في الأداء، ولكن الثابت في ميزانية الناتو ترامبياً يجب دعمها من جميع الشركاء لا من الولايات المتحدة فقط، فعلى أوروبا أن تدفع ربما بشكل شبيه لطريقة دفع الملك السعوديّ المعروفة، خاصة والعالم يرى ويسمع تفاصيل أداء زعماء أوروبيين وفضائح فسادهم التي نالت من هيبتهم وهيبة بلادهم، ربما باستثناء ألمانيا حتى الآن .
الصين ستكون أكثر راحة وأقوى في التصدّي للسياسات الأميركية الثابتة ضدّها، خاصة أنّ طرقها البرية الآمنة والسريعة والزهيدة التكلفة ستوصل منتجاتها إلى أماكن بعيدة بسهولة ويُسْر، وستكون من أقلّ الدول تأثراً بالكساد الاقتصادي العالمي، كما أنّ أذرعها الناعمة العاملة بصمت ستكون قد أنجزت اتفاقيات اقتصادية وسياسية وربما عسكرية ـ أمنية في أنحاء عديدة من العالم .
لعلّ روسيا ستكون من الدول الأكثر راحة والأشدّ ابتهاجاً في حال عاد ترامب، فقد احتفظ ترامب بعلاقة مقبولة مع بوتين، سبق وأثارت شبهات حول دعم هذا الأخير له انتخابياً، وهي شبهات استغلها خصومه الديمقراطيون، وإن كانت فكرة محاصرة روسيا ستبقى نشطة في العقل الجمعي الأميركي .
في عالمنا العربي ستدفع عودة ترامب باتجاه مزيد من التطبيع العلني بين دول عربية و(إسرائيل) ـ إنْ بقي أحد من أولئك القوم لم يطبّع ـ باعتبارها إنجازاً سهلاً لسياسته الخارجية، السعودية مثلاً وكذلك يمن عبد ربه منصور هادي إنْ كانت لا تزال موجودة. أما ارتفاع أسعار البترول في السوق العالمي والذي تجاوز مؤخراً حاجز 80 دولاراً، الأمر الذي سيزيد من مداخيل دول البترودولار. وهذا ما سيزيد أيضاً من شهية ترامب لاستلاب ما سيترصّد في حسابات تلك الدول، يساعده على ذلك الرعب الذي أصاب الإمارات إثر الهجوم اليمني الأخير على مطاراتها والذي ستنتقل عدواه لغير الإمارات من الدول التي تقتل في اليمن وأهله، أو لمن اعتقدت الإمارات أنها باتفاقياتها التطبيعية الأمنية والاقتصادية ستجد لديه الحماية وإذا به يخشى أن تصل المسيّرات اليمنية إلى إيلات. هذا وقد اتضحت استراتيجية اليمن التي تقضي بإطالتها لاستنزاف خصومه وإرهاقهم، فهم أعجز من أن يستمرّوا بالقصف، وأكثر هشاشة من احتمال الضربات في عمقهم، إذ لا يستطيعون على المدى البعيد أكثر من دفع المال .
تركيا وأردوغان على موعد قريب مع انتخابات ليس من السهل التنبّؤ بنتائجها، ولكن البلد ستكون موضع اهتمام إدارة ترامب وذلك في مقابل أوروبا التي لا تريد الاعتراف بغربيتها من جانب، ثم لثبات ولائها لحلف الناتو وان اتخذت سياسات مخالفة أحياناً من جانب آخر، ولضرورات ملء الفراغ الناشئ عن تقليص الحضور الأميركي في الشمال السوري وغرب العراق.
إيران ستكون مصدر صداع لترامب ومشكلة من مشاكله، في الغالب ستكون قد وقعت اتفاقها النووي مع الإدارة الحالية، إيران الحذرة والتي لا تلدغ من جُحر واحد مرتين، ستكون حريصة كلّ الحرص على أن يكون اتفاقها هذا ملزماً للدولة الأميركية لا لرئيس بعينه ولا يستطيع خليفة الرئيس نقضه كما حصل في الاتفاق السابق مع إدارة أوباما، وهي حريصة أيضاً على ضمان للمستقبل من ناحية أن لا تكون التجارة الإيرانيّة أو أموالها المجمّدة رهينة مرة أخرى وذلك بإخراجها من منزلقات المسالك المصرفية والمالية الأميركية أولاً والغربية ثانياً. لذلك سيبحث ترامب عن مجالات اشتباك مع طهران، للاشتباك معها عبر حلفائها، الأمر الذي يُنذر دمشق والضاحية الجنوبية وغزة بأوقات قد تكون صعبة.
فلسطينياً، سيعمد ترامب في غالب الأمر إلى إهمال السلطة الفلسطينية وإلى عدم فتح أية آفاق سياسية تفاوضية معها، فالمسألة لا تبدو ملحة، اللهم ان حصلت على الصراع مستجدات رفعت من حرارته، كما قد يخرج الشأن الفلسطيني من أدراج البيت الأبيض إلى دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية أو إلى مكتب فرعي من مكاتب وكالة المخابرات المركزية، حيث ستدار الأمور على طريقة الباب الدوّار، بحوارات وزيارات ووفود لا تقدّم شيئاً. مصاعب السلطة المالية قد تزداد فالدعم المالي سيعود إلى التوقف أو التدفق بضعف، كما في ولاية ترامب السابقة ولكنه سيبقى متواصلاً للأجهزة الأمنية وبشكل مباشر، دون المرور بالحكومة أو وزارة المالية، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) ستعاني من أحوال مالية صعبة، حيث ستكون ممن ينالهم التضييق المالي.
الالتزام بدعم (إسرائيل) سيبقى على حاله إن لم يتزايد، سواء عسكرياً أو مالياً أو سياسياً وفي المحافل الدولية الدبلوماسية والقضائية، وذلك بغضّ النظر عن انسجام ترامب وأركان إدارته مع الحكومة الحاكمة في حينه، وفي حال استمر العمل على تقليص الحضور العسكري في الإقليم، فستكون (إسرائيل) هي المستفيد الأول، خاصة إن صحّ الافتراض بتصاعد الصراع مع إيران عبر دمشق والضاحية وغزة .
بما أنّ عودة ترامب غير المباركة واردة، فبعض العالم يستعدّ ويعدّ العدّة لمواجهتها كالصين وإيران، فيما بعض العالم عليه أن يستعدّ لها بتقديم ما يطلب منها في المال والسياسة ومن هؤلاء بعض عالمنا العربي، وعلينا أيضاً في مشرقنا الشاميّ الاستعداد ووضع تصوراتنا لهذه العودة المحتملة قبل أن تتداركنا الأحداث .