صلاة الكرملين: مشهد خارج حدود الزّمن الضّائع
} حسن الدّر
هناك صنف جديد من عمليات التصوير، هي تقنية التصوير الفوتوغرافي، وهي من أهمّ إنجازات عصرنا؛ لأنها تمنح للإنسان فرصةَ عزل مفردة محدّدة من الخبرة البشرية، أو قطعة معينة من نسيج الأحداث التي تلفّ بنا، أو حجْر إحساس من الأحاسيس التي تداعب أرواحَنا في زمان ومكان محددين، ضمن قالب مرئي، مع محافظة المشهد على جزء كبير من الروح المصاحبة للحدث، إنّ عملية التصوير إخضاع للمادة الصماء وانتزاع جزء من ماهيتها في مشهد قابل للمعاينة خارج حدود الزمن الضائع…
الكلام السّابق للكاتب والطبيب الأميركي «أوليفر وندل هولمز» من عام 1859عندما بدأ عصر التّصوير الفوتوغرافيّ.
وبعد قرابة 16 قرناً من الزّمن، ومع تطوّر تقنيّات التّصوير، برزت أوّل من أمس صورة للرّئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي وهو يقيم الصّلاة في مبنى «الكرملين» خلال زيارته الرّسميّة الأولى لروسيا.
من بين مليارات الصّور الّتي تلتقط يومياً (حسب تقديرات مواقع عالميّة غير رسميّة) سوف تُحفر هذه الصّورة في ذاكرة أجيال كثيرة قادمة، ليس لدلالتها الايديولوجيّة فقط، بل لرمزيّتها السّياسيّة في زمن التّحوّلات الكبرى الّتي يشهدها العالم والمنطقة.
فعلى أعتاب توقيع الاتفاق النّووي بين الجمهورية الإسلامية الايرانية ودول الـ 5+1، وفي ظلّ الخروج الأميركي من المنطقة إيذاناً ببدء الحرب الباردة بين أميركا والصّين، ما يحتّم على إيران وروسيا ملء الفراغ الأميركي وإدارة المنطقة وفق مقتضيات التوازنات الجديدة التي فرضتها كلّ من الدّولتين الجارتين بكثير من الحكمة والصّبر في مواجهة الأحادية الأمريكيّة منذ سقوط الإتحاد السوفياتي عام 1991.
ولكن، ثمّة قراءات متباينة حول مستقبل العلاقة التي تربط البلدين تتراوح بين تطويرها إلى مستوى الحلف الاستراتيجي واعتبارها «حلف الضرورة» في مقابل من يرى بأنّ تاريخ البلدين الحافل بالعداوة السياسية والتباين الايديولوجي سيعود إلى الواجهة بعد توقيع الاتفاق النووي وخروج أميركا من المنطقة.
أصحاب الرأي الثالث يبنون رؤيتهم على فرضيّة «القلق الروسي» من تطور البرنامج النووي الايراني إلى حدّ امتلاك القنبلة النووية الذي سيشكل لاحقاً تهديداً واقعياً لروسياً، فصحيح بأنّ دخول إيران النادي النووي وخروجها من دائرة العقوبات الأميركية سيريح موسكو ظاهريّاً ويحرّرها من القيود الغربية المفروضة على إيران، إلّا أنّ إيران «الشرعيّة» ستتحوّل إلى منافس طبيعي لروسيا في الشّرق الأوسط وشمال القوقاز وآسيا الوسطى، وهي مناطق نفوذ متداخلة بين البلدين، وإيران تمتلك من القدرات الذاتية ما يؤهّلها لتؤدّي دوراً إقليمياً لا يقلّ أهمية عن الدّور الرّوسي.
وتعتبر سورية، حاليّاً، نقطة احتكاك ساخنة بين البلدين، على الرغم من التنسيق العميق بينهما، إلّا أنّ الاعتداءات «الإسرائيلية» على مواقع للمقاومة في سورية بغضّ نظر، وربّما، رضى روسيّ يضع علامات استفهام كبيرة حول النوايا الرّوسيّة اتّجاه إيران وحلفائها.
فهل تتعمّد روسيا إيصال رسائل إلى إيران عبر البريد «الإسرائيلي»؟
هكذا يعتقد المتضرّرون من التقارب الإيراني الرّوسي، لكنّ فريقاً أكثر واقعيّة يرى بأنّ إيران تتفهّم رغبة روسيا بأداء دور ضابط الإيقاع في المنطقة وسعيها لحفظ التوازنات بين القوى المتصارعة.
وعن مستقبل العلاقة بين روسيا وإيران في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي، فالطرفان محكومان بالتّفاهم والتّوافق وتقريب المسافات بينهما في جميع الملفّات المشتركة، وإذا اعتبره البعض «حلف ضرورة» فذلك تأكيد على النظرة الاستراتيجية للطرفين وقتاعتهما بالالتقاء حول هدف أسمى من تفاصيل الخلافات بينهما مهما تعقّدت، والهدف هو مواجهة أميركا والاستفادة من انشغالها بالهمّ الصّيني لتعزيز دوريهما الاقليمي، وربّما الدّولي لاحقاً، عبر تشكيل جبهة مشتركة تهتمّ بمختلف القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية، وهذا ما أكّد عليه رئيسي في كلمته أمام مجلس «الدّوما» واصفاً العلاقات القائمة حاليًّا بأنّها غير كافية.
وأولى ثمرات التّعاون الاستراتيجي ستتمثّل في ترتيب البيت السوري بعدما ساهما في هزيمة من حاول هدمه، وهذا ما أشار إليه رئسيي أيضاً في كلمته أمام مجلس النّوّاب الرّوسي، حيث اعتبر التّعاون هناك بالنّموذجيّ.
بالعودة إلى صورة الرئيس رئيسي، ووصف «هولمز» للصورة الفوتوغرافية، إنّها «مشهد قابل للمعاينة خارج حدود الزّمن الضائع»، وربّما تعيش المنطقة في حدود زمن ضائع بين زمنين: زمن القطب الواحد والأقطاب المتعدّدة، وسيأتي، لاحقاً، من يعاين ذلك المهشد بكثير من التّحليل والتّدقيق…