هل تكرّ سبحة العزوف والخروج من المشهد السياسي؟
علي بدر الدين
يُحكى أنّ فلاحاً فقيراً فقد «السكة» التي يحرث فيها أرضه، وهي مصدر رزقه ومعيشة عائلته، وقد بحث عنها في كلّ مكان من دون أن يعثر على أثر لها، فقرّر أن يشتكي على السارق المجهول إلى الملك، الملقب «أبو دكة»، فقصده في قصره وأبلغه أنّ أحداً من شعب مملكته العظيمة «سرقلو» سكة الحراثة، وأنتم لا تقبلون ان يحصل هذا في عهدكم الميمون، والمعروف عنكم بأنكم الملك العادل، فسأله الملك هل تتهم أحداً بسرقة «السكة»؟ أجابه الفلاح «لا أحد ولو كنت أعلم لأبلغت عنه من دون تردّد»، عاد الملك وسأله، أليس معك من يساعدك في حراثة الأرض؟ أجابه الفلاح «نعم، ولكنني لا أشك فيه أبداً ولا أتهمه بالسرقة لأنه شريف ومنزه».
عدٌل الملك جلسته على كرسيه الفخم، وحرٌك تاجه الملوكي على رأسه بيديه «الطاهرتين»، وقال للفلاح بنبرة عالية وثقة مبالغ فيها، «لقد وجدتها»، فانفرجت أسارير الفلاح المسكين، وراح من شدة فرحه وغبائه في آن، يدعو للملك أبو دكة بالصحة وطول العمر، ويشيد بعدل عهده ونزاهته ونصرته لفقراء مملكته، منتظراً بفارغ الصبر، أن يكشف عن السارق ويعيد له سكته المسروقة، وإذا بالملك يقول له، يبدو أنّ التراب طمر السكة عندما كنت تحرث الأرض ولم تنتبه لذلك، وقد جاء الواوي ليلاً لينبش في التراب بحثاً عن شيء يأكله، فعثر على السكة وسرقها ليبادلها بالطعام، فصدم الفلاح وتعجّب من «حكمة» الملك وكذبته الكبيرة، ولم يصدّق ما سمعه منه وهو الذي يدٌعي العفة والعدل والصدق، ويتهم الواوي بسرقة السكة، ولا يمكن لعاقل ان يستوعب ويصدق هذا الاتهام، وخرج من عند الملك وهو يضرب «كفاً بكف» ويقول،» بعهد أبو دكة الواوي سرق السكة».
هذا الحكم المبرم من الملك ذهب مثلاً، واستعارته منه الطبقة السياسية في لبنان وجعلت منه أنموذجاً اعتمدته، وهي المتحكّمة بالمال والسلطة منذ عقود طويلة، أقله منذ الإعلان عن دولة لبنان الكبير في العام ١٩٢٠ لغاية اليوم، وتحوّلت سرقة المال العام والخاص، الى ميزة وعلامة فارقة لكلّ الحكام الذين عبَروا، والذين تابعوا بسلوكياتهم مسيرة ومسار من سبقهم من حكام الماضي البعيد والقريب، ولا يزال الحبل يتمدّد ويطول، على أيادي الخلف «الصالح» الذي ظلّ أميناً ووفياً للسلف «الصالح» العاطل، بكلّ ثقة واعتداد على السكة «الصحيحة»، لمواصلة نهج السرقة والفساد والتحاصص والسطو على أموال الدولة والشعب والمؤسسات، من دون أن يجرؤ أحد على اتهام الحاكم أياً كان وبأيّ موقع سلطوي كان، وإلى أيّ طائفة أو مذهب أو منطقة انتمى لأنها مسيّجة بالخطوط الحمر وممنوع الاقتراب منها أو حتى الإشارة إليها، لأنه من «البديهي» مع هكذا حكام، أن يبقى السارق المعلوم مجهولاً بالتكافل والتضامن وسراً لا يُقال، وإنْ سرق «الكحل من العين»، والمسروق دائماً هو الشعب، الذي يتحوّل بسحر ساحر إلى متهم بالسرقة، وتجب ملاحقته ومعاقبته على تهم بالجملة والمفرّق هو بريء منها، ويتحوّل إلى ضحية ويتكاثر ذباحوه، وتسرق أمواله وتصادر حقوقه ويتمّ إفقاره وتجويعه وإذلاله، والتهمة جاهزة على الحيتان والغيلان والثعالب وكلّ الحيوانات المفترسة أكلة لحوم بعضها والبشر، وحتى الحيوانات الأليفة التي تعيش داخل البيوت، أو على أبوابها ويجهّل السارق الحقيقي.
إنّ الشعب اليوم يعيش فعلاً في عصر الملك أبو دكة، الذي يدّعي العدل والمساواة والنزاهة ويفعل عكسها، ومعظم مَن في المملكة شركاء ومتواطئون في سرقة مكشوفة للبلاد والعباد مباشرة أو غير مباشرة كلّ من موقعه، ان كان من خلال الصمت او الجهل، (يقول إبن خلدون في مقدمته إنه أصل الشر)، او الغباء أو لمصلحة ومنفعة، وكثر هم الذين يشبهون الملك أبو دكة، الذي لم يجد أمامه سوى الواوي ليتهمه بسرقة سكة الفلاح الفقير.
هذا يعني تجهيلاً للسارق الحقيقي وتشجيعاً لأمثاله على السرقة، ما دامت المملكة بكلّ ما فيها وعليها مباحة ومشرّعة أبواب الفساد، ولا وجود فيها لأيّ مسؤول يملك ذرة من المسؤولية، أو يتجرأ على الخروج من «القطيع» ليتهم ويحاسب السارق الحقيقي المكشوف.
وبما أنّ «الشيء بالشيء يُذكر» يُروى أنّ حاكماً ظالماً ومرتكباً «السبعة وذمتها» بحق بلده وشعبه، توفي، وكان له ولد يتمتع بالطيبة والسمعة الحسنة، ولا يشبه أباه، ولم يمش على خطاه، أو يتبنى سلوكه المشين، وكان كلّما مرّ بشارع يسمع من الناس اللعنات على والده الظالم والفاسد و»الأزعر»، فقرّر تغيير سلوكه والسير على طريق والده عله يجلب له الرحمة والمغفرة، بدلاً من اللعنات التي تلاحقه إلى قبره، ففعل موبقات فاقت أفعاله، وكان ردّ فعل الناس أنفسهم باللعنة عليه، وإنزال شآبيب الرحمة على والده، و»من خلف ما مات».
يعني ببساطة، أنّ حكام لبنان في كلّ مكان وزمان هم أنفسهم لا يتغيّرون، وإنْ تغيّرت الوجوه والأسماء، فالسلوك واحد والهدف واحد، هو السلطة والمال والنفوذ والسرقة والتحاصص، وتقاسم مغانم الدولة ومقدراتها ومواردها، وحقوق الشعب وأمواله.
فلماذا كلّ هذا الضجيج والصخب والمبالغة في المواقف والادّعاء الكاذب بخراب البلد وانعدام الميثاقية وإشغال الناس الذين يعانون كثيراً من المنظومة السياسية، إنْ قرر هذا المسؤول أو ذاك أن يتنحّى جانباً ويخرج من المشهد السياسي والسلطوي، او رحل آخر من دار الفناء إلى دار البقاء؟ ماذا سيتغيّر؟ لا شيء، لأنه كما يقول المثل، «جمل محل جمل يبرك»، فكفى مزايدة وبكاء وعويلاً ودموع تماسيح، كأنّ «القيامة قامت» ويا ويل الشعب، إنْ غاب فلان أو علاّن عن مسرح السياسة والسلطة والأحداث، خاصة إذا كان قرار الرحيل أو الإنكفاء ذاتيا، وفرضته ظروف خاصة أو عامة، عسى ان يكون مردود التنحّي خيراً على البلد والشعب، ومثالاً للآخرين من السياسيين والمسؤولين لتكر سبحة خروجهم «الآمن» من السلطة، و»يشمّعوا» خيوطهم ويرحلوا اليوم قبل الغد. على أمل أن يتحقق هذا الأمر، وتحصل المعجزة المنتظرة ويكون خلاص لبنان…