انسحاب الحريريّ يختتم ثلاثة عقود… نحو التصفير
ناصر قنديل
– قبل ثلاثة عقود تماماً كان الدخول الأول للرئيس رفيق الحريري الى السراي الحكومي رئيساً للحكومة، دون أن يكون لديه تيار سياسي أو كتلة نيابية، مفتتحاً مساراً جديداً في الحياة السياسية والاقتصادية، في ظل تفاهم سوري سعودي على تمكينه من تشكيل الركن الثالث في الترويكا التي شكلت إطار النظام المنبثق من اتفاق الطائف، في ظل معادلة كان الخلل فيها قد أصاب شرعية الانتخابات النيابية بعد المقاطعة المسيحية. وكانت القيادات المسيحية الوازنة، مَن اشترك في دعم الطائف ومَن عارضه، قد بدأت الاصطفاف على الوقوف خارج النظام الجديد. وكانت السعودية غير راضية عن تمثيل الطائفة السنية السياسي بزعامات تمثل بيوتاً تاريخية في كل من بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع تجمعها بسورية علاقات مميّزة. وصار نهوض الترويكا يعادل حصر التمثيل السني بالرئيس الحريري، وتصفير الساحة السياسية لطائفته، ومركزتها حوله، مقابل تقاسم ثنائي حركة أمل وحزب الله لتمثيل الساحة الشيعية، وإبقاء التمثيل المسيحي مفتوحاً على البيوتات السياسية بدلاً من الأحزاب التاريخية، وحتى قبيل اغتياله ومن ثم عودة القيادات المسيحية الغائبة او المغيبة الى المسرح، حاول الرئيس رفيق الحريري تقديم الغطاء السني والمسيحي معاً، لنظام الطائف.
– تزامن رحيل الرئيس رفيق الحريري ودخول الرئيس سعد الحريري الى المسرح مع سقوط تدريجيّ ثم شامل، للمعادلة السورية السعودية، وصولاً لانخراط السعودية في الحرب على سورية، وتموضع الرئيس سعد الحريري في هذه الحرب. وتزامن ذلك أيضاً مع هجوم سياسي على المقاومة ترجم عسكرياً في حرب تموز 2006، وتبديلاً لأولويات السياسة في لبنان على الضفة الدولية التي نجحت واشنطن باحتكارها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، من الانخراط في التسويات مع خيار الممانعة، نحو محاصرة المقاومة. وجاءت حرب العراق وسلسلة الحروب التي تبعتها على لبنان وغزة وصولاً لحرب إسقاط سورية ترجمة لهذا التبدل. وتموضعت السعودية ومعها الرئيس سعد الحريري في هذا الخيار، ووضعت القيادات المسيحية العائدة للانخراط في المسرح السياسي بين خياري التحالف مع المقاومة، كما فعل التيار الوطني الحر، أو الوقوف على ضفة العداء لها كما فعلت القوات اللبنانية وفعل حزب الكتائب، ونتج عن الفشل في هذه الحروب على المقاومة، وآخرها حرب الإسقاط المالي للبنان بعد حرب الإسقاط العسكري لسورية، بدء توزيع الخسائر في صفوف حلف الحرب، وكما حمّلت أميركا حلفاءها السعوديّ والإسرائيليّ والتركيّ والقطريّ مسؤولية الفشل، فرحل بنيامين نتنياهو، وأغلقت الأبواب في واشنطن بوجه محمد بن سلمان، وتم ترحيل أمير قطر (الأب) ورئيس وزرائه، وفرضت العقوبات على أردوغان ونظامه، قامت السعودية بقيادة ولي عهدها بتحميل الحريري مسؤولية الفشل، ووضعت عليه الحرم السياسي، من احتجازه عام 2017 وصولاً لفرض إعلان انسحابه أمس.
– رغم إصرار الحريري على تبني الخطاب السياسي العدائي تجاه المقاومة يسجل له أنه يُعاقب على عدم انخراطه في اللعبة الدمويّة التي طلبها منه السعوديون وارتضاها سواه. وهو بذلك كان يقيم حسابات المصلحة، كما كان يسمّيها والده، عندما رفض السير بما طلبه منه الأميركيون والفرنسيون لجهة المضي في الوقوف بوجه التمديد للرئيس أميل لحود لفتح الباب لإسقاط سورية في لبنان كسياق لترجمة القرار 1559 الذي تذكره الخليج اليوم بقيادة السعودية كعنوان لمبادرتهم نحو لبنان، فصارت دماء الرئيس رفيق الحريري وقوداً أفضل من بقائه لتطبيق بند الانسحاب السوري من لبنان الذي نص عليه القرار، وإطلاق الرهان على حرب تموز 2006 لتطبيق البند الخاص بسلاح المقاومة، وهو البند الذي رافق مسار الرئيس سعد الحريري، كطلب أميركي سعودي ضاغط في أولويات السياسة، فوجد الانسحاب من المسرح السياسي أمس، أقلّ الأثمان المتاحة، تاركاً لهم الفرصة لترجمة خيار العودة لتصفير الساحة السياسية لما قبل مجيء والده وحضوره الى المسرح، بعدما قرر الأميركيون والسعوديون السير بهذا التصفير، منذ 17 تشرين أول 2019، سعياً لتحويل لبنان الى مستنقع من الفراغ والفوضى تغرق فيه المقاومة. والمقصود من التصفير، العودة بلبنان الى ما قبل اتفاق الطائف في ظل الانهيار المالي يوم كان سعر الدولار قد ارتفع أكثر من مئة ضعف، والتفتت السياسي، والتشظي الطائفي، والفلتان الأمني، وهامشية الدولة ومؤسساتها، وفتح الباب لولادة تجمّعات صغيرة تملأ المشهد بالضجيج والصراخ، دون أن تملك حضوراً شعبياً يخولها دخول المسرح السياسي التمثيلي بقوة، على طريقة السودان والصومال، حيث يلعب المجتمع المدني دوراً، جماعة الحرية والتغيير في السودان التي تستنجد بـ «إسرائيل» لطلب وساطة أميركية وإنتاج حل سياسي في السودان، يقابلها نموذج حركات متطرفة تشبه حركة الشباب في الصومال، التي تتحالف مع تنظيم القاعدة.
– الذي يغيب عن حسابات جماعة مشروع التصفير، هو أن لبنان والمقاومة فيه قد بلغا مرحلة من المنعة والقوة، رغم كل نقاط الضعف، ما يجعل توازن نقاط الضعف بالمقارنة مع كل حلفاء واشنطن في المنطقة، مشابهاً لتوازن نقاط القوة، لصالح المقاومة، وخصوصاً مع «إسرائيل» والسعودية، لتصير هي الأقدر على رسم معادلة الخروج بسلام من مشروع التصفير. وفي واشنطن حيث ثمة من لا يريد للانسحاب من أفغانستان أن يتحول الى نهج واستراتيجية ويصرّ على تقديمها كسانحة عابرة لها خصوصيتها، أملاً باسترداد مهابة تفاوضية أقوى مع روسيا والصين وإيران، هناك من يقرأ تجارب كازاخستان وأوكرانيا كتأكيدات تجعل أفغانستان سياقاً سيتكرر حكماً في العراق وسورية، وفي واشنطن حيث من لا يريد لاستثناء لبنان من عقوبات قانون قيصر في استجرار الكهرباء الأردنية والغاز المصري عبر سورية، أن يتحول الى سياسة، ويسعى لإنعاش سياسة الضغوط والابتزاز وتشجيع الحلفاء على المزيد من الضغوط، وهو ما تحاول اختباره الورقة الخليجية. هناك من يقرأ في مخاطر التردد في ترسيم الحدود البحرية للبنان، فرصة قد تكرّر تجربة سفن كسر الحصار التي فرضت الاستثناء من العقوبات، بصيغة سفن للتنقيب عن النفط والغاز تقلب الطاولة، وترسم مشهداً جديداً، لا يريده الذين يرددون اليوم أن الاتفاق النووي مع إيران أحلى الأمرين، وأن التسليم بالفشل في الحرب على اليمن يشبه مرارة التسليم بالفشل في الحرب على أفغانستان، لكن ليس أمام السعودية والإمارات بدائل أفضل مما كان متاحاً لواشنطن.