بايدن ومحاولته اليائسة تغطية الفشل عبر المطوّلات
} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
استغرق الرئيس بايدن مؤتمره الصحافي في 19 من الشهر الحالي، زهاء ساعتين، مخاطباً الشعب الأميركي، ومجيباً على أسئلة الصحافيين، ونافياً الاتهامات بعدم أهليته لقيادة البلاد وتراجع قدراته الذهنية، مارّاً على عدد من الملفات والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الولايات المتحدة. واضطُر بعض أعوانه إلى لإقرار بأن توقعاته لم تكن في صالح سرده الإخفاقات التي واجهها في عامه الأول، لكن الشعب الأميركي يعي ذلك جيّداً.
الملاحظة الأبرز في أدائه الأخير أن الولايات المتحدة تعاني من حالة انقسام سياسي «غير مسبوق في تاريخها الحديث». ومن بين الوعود التي قطعها على نفسه وأخفق في إنجازها، فإن الحفاظ على الوحدة الداخلية يعدّ من أهم مسؤولياته، تليه الحالة الاقتصادية وعدم انقسام الحزب الديموقراطي على نفسه. وعبّرت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مأزق البيت الأبيض قائلة: «لا يزال بمقدور بايدن إنقاذ رئاسته». واستدركت بالتحذير من أنّ «ثمة خطورة من أن تؤدي سياسات بايدن إلى وضعية لا يعود معها خصوم أميركا يخشونها، ويصبح فيها حلفاؤها لا يثقون بها» («نيويورك تايمز»، 18 كانون الثاني/يناير 2022).
من نافل القول إن الرئيس بايدن حصل على أعلى نسبة تصويت من الناخبين في تاريخ الكيان السياسي الأميركي، بينما أشارت استطلاعات الرأي المتتالية في سنته الأولى إلى تدنّي أدائه، وإلى أنه «الرئيس الأكثر تخييباً للآمال منذ ما يزيد من 75 عاماً». وأقرّ الرئيس بايدن بذلك في بداية خطابه قائلاً: «لا أؤمن باستطلاعات الرأي»، مضيفاً أنه لن يقبل ببساطة الوضع الراهن كمقياس. وقال: «لن أستسلم وأقبل الأمور كما هي عليه الآن، بعضهم يعتبره وضعاً عادياً جديداً، وأنا أوصّفه بأنه عمل لم يكتمل بعد».
وقد أشار استطلاع أجراه «معهد غالوب»، في شهر تشرين الأول/اكتوبر الماضي، إلى نيله أدنى نسبة تأييد بين الرؤساء الأميركيين منذ عهد الرئيس الأسبق هاري ترومان في عام 1945.
خرج الرئيس بايدن عن أطواره الهادئة بعض الشيء بانتقاده سلفه الرئيس دونالد ترامب، لممارسته نفوذه على أعضاء الحزب الجمهوري لتعطيل خطته للنهوض بالاقتصاد، وباتهام قادة الحزب الخصم بأنهم ليس لديهم أي خطة أو أهداف غير التعطيل، وتقديم مستقبلهم السياسي على حساب مستقبل البلاد.
مرور الرئيس بايدن في خطابه على سلفه الرئيس ترامب ليس بعيداً عن الواقع. فلقد أظهر الأخير أنه «قيادة غير مرئية» لتوجّهات الحزب الجمهوري، ولا يزال يمارس دوره في ترشيح مندوبي الحزب الموالين له، وإقصاء الذين عارضوه أو أيّدوا مساعي تقديمه إلى المحاكمه.
أما بصدد أجندته للنهوض بالاقتصاد وترميم البنى التحتية، فقد أعرب بايدن عن خيبة أمله من «عدم مساندة مجلس الشيوخ»، من الحزبين. وللخروج من المأزق، وافق بايدن على تقسيم الخطة الأصلية إلى مجموعة أجزاء طمعاً في نيل دعم اثنين من أعضاء حزبه في مجلس الشيوخ، ومن ثم تُهيّئ نائبة الرئيس جلسة التصويت كي يفوز بنسبة الأغلبية البسيطة. لكنّ «الشيطان يكمن في متن التفاصيل».
أوجز عدد من منتقدي الرئيس بايدن ما يواجهه من تحديات بأنها تتمثل في «حال الاقتصاد، وجائحة كورونا وإخفاق التأييد لبرامجه المقدمة في الكونغرس، ما أسفر عن بداية باهتة في سنته الأولى».
حظيت الأجندة الخارجية للرئيس بايدن بمساحة كبيرة من الاهتمام. فقد واجه 3 ملفات ملتهبة، الصين وروسيا وإيران، ناشداً الصدام مع الأولى والثانية، بينما حافظ على قدر من لغة التهدئة بشأن الملف الإيراني لاعتبارات المفاوضات النووية الجارية في فيينا، ما يدل على نية أميركية للعودة إلى الاتفاق. لكنّ كبار مستشاريه في البيت الأبيض يُصرّون على أن «طهران لم تقدم أي شيء بنّاء في المفاوضات حتى اللحظة، وأن الوقت ليس متاحاً إلى ما لا نهاية». جاء ذلك على تضاد مع خطاب الرئيس بايدن بقوله: «هناك بعض التقدم في المفاوضات، لكننا سننتظر إن كانت إيران جاهزة للاتفاق».
ومهّدت فصلية «فورين أفيرز» سقف أجواء المفاوضات الجارية في فيينا بالقول «إن أميركا لا تريد الحرب، ولكنها لا تريد إيران نووية أيضاً. وهذه معضلة حقيقية تزيد من شهوة إيران العدوانية في المنطقة» («خط أحمر لإيران» في مجلة «فورين أفيرز»، 23 كانون الأول/ديسمبر 2021).
على الجانب المقابل، أوضح السفير الأميركي السابق لدى سورية، روبرت فورد، ما يدور في خلد المعادين للتقارب مع إيران، وهم الأغلبية، قائلاً: التحدّي الإيراني يمثّل أبرز التحديات التي تواجه أميركا في المنطقة، وعلى واشنطن العمل مع حلفائها التقليديين في المنطقة لمقاومة توسّع النفوذ الإيراني، ولا يمكن للإدارة القيام بذلك من دون الاعتماد على السعودية وتركيا.
استهداف واشنطن للصين ليس جديداً، بل هو امتداد لسياسات الرؤساء الأميركيين من الحزبين. وأوضح بايدن أن حكومته لن ترفع عقوبة رسوم التعرفة الجمركية التي فرضها سلفه الرئيس دونالد ترامب عليها، وصعّدت المواجهة العسكرية في مياه المحيط الهاديء في جوار الصين، وتضع نصب أعينها إعاقة أو تعطيل خطة الصين بالانفتاح على العالم، المعروفة بمبادرة «الحزام والطريق».
الصراع الأميركي مع روسيا لا يزال امتداداً للسياسات الأميركية السابقة في معاداتها لها، على الرغم من إلصاق هالة من «الواقعية السياسية» على الرئيس بايدن، مقارنة مع سلفه الرئيس ترامب. وبرزت أوكرانيا كبرميل بارود على وشك الانفجار، نتيجة الاصطفافات والتحالفات السياسية التي تقودها واشنطن مع حلفائها في حلف الناتو. الأمر الذي يناقض ما وصفه الصحافي الأميركي الشهير بوب وودوارد في كتابه «الخطر المحدق»، بأنّ (نائب الرئيس) بايدن لم يكن راضياً عن كيفية تلاعب القادة العسكريين بالرئيس أوباما بشأن أفغانستان، كي يأخذ قراراً بزيادة عدد القوات الأميركية هناك.
تمسّك الرئيس بايدن بخطاب التصعيد ضد روسيا، محذّراً من «الكلفة الباهظة أن غزت أوكرانيا»، أبرزها سيل من العقوبات الاقتصادية، بينما أمدّت واشنطن كييف بمعدات عسكرية مختلفة ومنح مالية، فضلاً عن تقديمها الدعم السياسي والديبلوماسي.
إصرار الإدارة الأميركية على مواصلة نهج التصعيد مع روسيا يعززه فشل المحاولة الأخيرة لقلب نظام الحكم في الجارة الجنوبية كازاخستان، كما يشاع في واشنطن. كان من المفروض أن تتحقق المساعي الأميركية «لقلب الطاولة على روسيا في حديقتها الخلفية» قبل لقاء وفديهما في فيينا، 18 الشهر الحالي، لاستعراض الوضع بشأن الاتفاق النووي.
كما تشدّدت واشنطن في تصريحاتها للرد على تساؤلات روسيا في ورقتها الأمنية، وأوفدت وزير خارجيتها للقاء نظيره الروسي، لبحث ملفات الأزمات بينهما، وأبرزها ملف أوكرانيا، فاستغرق ذلك زهاء ساعتين. الوزير الأميركي شدّد على مطلبه من روسيا بأن عليها إثبات عدم نيتها غزو أوكرانيا، بينما أوضح الوزير الروسي أنهما توافقا على ضرورة مواصلة الحوار المنطقي كي «تتراجع لغة الانفعال».
عند التدقيق في الخط البياني العام للسياسة الأميركية، منذ غياب الاتحاد السوفياتي، تبرز «الاستثنائية الأميركية» كعنوان وجد جذره في طروحات الأميركييْن «نهاية التاريخ» لفوكوياما، و«صراع الحضارات» لهنتنغتون، وما كان يراد منه توظيف البُعدين الأيديولوجي والعقائدي لمنهج العولمة، الذي يطلب تسليم الطرف الأضعف بخسارته وتبعيّته للمركز الأميركي. لكنّ مسار التاريخ البشري عصيّ على التطويع، وأثبت فشل تلك الطروحات، وما بُني عليها، إذ اعتذر أصحابه عن عدم صلاحية ما نادوا به.
وعليه، ينبغي الإقرار بأن مساعي الغرب، والولايات المتحدة بشكل أدق، لتأسيس أرضية فكرية تعبّر عن هيمنة القوة الكبرى على العالم، وإقصاء بل تشويه الحضارات الأخرى، قد فشلت في تحقيق رؤى قصيري النظر، وأعاد الاعتبار إلى صراع قوى متعددة عوضاً عن استفراد قطب أوحد بمصير العالم.