إعادة بناء الثقة أم شروط إذعان؟
} جمال محسن العفلق
وصل إلى لبنان وزير خارجية الكويت بعد فترة توتر في العلاقات بين لبنان وبعض دول الخليج حاملاً معه وثيقة من عدة بنود تحت عنوان إعادة الثقة بين لبنان ودول الخليج. وهذه الشروط ليست لإعادة العلاقات الطبيعية إنما هي مقدمة اذا التزم بها لبنان تعود العلاقات بينه وبين دول الخليج الى طبيعتها تدريجياً وبشروط تلك الدول. وعنوان الوثيقة إعادة الثقة وعودة العلاقات الطبيعية، ولكن مضمونها يحمل إنذاراً نهائياً، كما تصفه الأوساط السياسية الخليجية؛ وهي شروط إذعان على ما يبدو أن مَن خطها أو شارك فيها من باريس يحمل فكر الحكومة الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى. ففي تفاصيلها إنذار يشبه إنذار الجنرال (هنري غورو) الشهير الى حكومة دمشق في مطلع القرن الماضي والتي انحصرت بأربعة أيام لقبولها أو رفضها ومن ثم الحرب.
وفي تفاصيل الورقة التي حملها الوزير الكويتي إنذار يحمّل لبنان كامل المسؤولية ويفرض عليه شروطاً تعبر عن استعلاء مَن كتبها وتهديد واضح. وهي عملياً ورقة شروط إسرائيلية وإن اعتبر البعض إنها خليجية وقادمة من دول الخليج. ففي بعض التفاصيل نجد ما يلي:
العودة الى اتفاق الطائف واليوم لم يعد ممكناً العودة اليه حرفياً دون تعديل الاتفاق لأن الظروف الدولية والإقليمية تغيّرت، علماً أن اتفاق الطائف ضمن لكل القوى اللبنانية الحق في المشاركة وحق المواطنة.
إلزام لبنان بكل قرارات الشرعية الدولية ولم يتطرّق الى إلزام الكيان الصهيوني بعشرات القرارات وأقلها عدم الاعتداء على لبنان واستخدام أجواء لبنان.. ويسجل لبنان مئات الخروق الصهيونية.
التأكيد على مدنيّة الدولة وهو أمر مستهجن أن تحمل وثيقة خليجية أمراً يتحدث عن مدنية دول أخرى، وكأن مَن خط الوثيقة هو مركز الديمقراطية في العالم!
سياسة النأي بالنفس قولاً وفعلاً، ولكن عن ماذا؟ هل لبنان بمعزل عن الصراع العربي الصهيوني؟ وهل لبنان معتدٍ على دول الجوار؟ ولماذا هذا الإصرار لجعل لبنان دون قرار أو حق بإبداء الرأي واتخاذ المواقف اتجاه القضايا الدوليّة والإقليميّة؟
تنفيذ قرارات مجلس الأمن بنزع سلاح المقاومة وهو جوهر الوثيقة والغاية منها، فكل ما ورد سابقاً هو تفاصيل. أما الحقيقة فتكمن في هذا الشرط الذي يريد حماية الكيان الصهيوني وإنهاء معادلة توازن الرعب حيث يصبح لبنان بمرمى القصف الصهيونيّ دون حق بالرد، وتحميل الجيش اللبناني المحاصر والممنوع من التسلح المسؤولية دون التطرق لدعمه.
وقف تدخل حزب الله في الشؤون الداخلية لدول الخليج. وكأن الحزب هو مَن أرسل سفيره الى دول الخليج ونصب خيمة هناك، وبدأ بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج وقام بالتحريض من خلال شراء الذمم ودفع الأموال. ولم تتطرّق الوثيقة للدور الذي مارسته دول الخليج في شق الصف اللبناني وسجن رئيس الوزراء وإجباره على الاستقالة وقطع العلاقات، ووصل الأمر الى حد إهانة الدولة اللبنانية.
وقف أنشطة الجماعات المناوئة لدول الخليج في وقت تحتضن دول الخليج جماعات وقيادات إرهابية، وموّلت مجموعات حاولت ضرب السلم الأهلي في لبنان، كما موّلت حملات إعلامية لتشوية لبنان وحصاره اقتصادياً وساهمت في انهيار أسعار الصرف وتساهم اليوم في حرمان لبنان من ثرواته البحرية من الغاز بدعم من الكيان الصهيونيّ وتسعى تلك دول لاستثمار ميناء حيفا بديلاً عن ميناء بيروت الذي تمّ تفجيره ومازالت القضية معلقة في تحديد الجاني.
الالتزام بإجراء الانتخابات النيابية وهو شرط يعطي الحق لدول الخليج بالتدخل في الشؤون الداخلية للبنان. فهل تقبل دول الخليج أن يطلب لبنان منها وضع دستور لبلادها أو السماح للقوى السياسية بتشكيل أحزاب؟
إن ما حمله وزير خارجية الكويت الى لبنان هو وثيقة إذعان وشروط إذلال واضحة مدعومة من الكيان الصهيوني، ولا أبالغ إذا قلت إنها مكتوبة هناك ومعاملة لبنان على انه مزرعة تتبع لدول الخليج هي أمر يمسّ الكرامة الوطنية لكل لبناني اذا قرأ هذه الشروط. فمن حق لبنان كدولة مستقلة ذات سيادة أن يحدد علاقاته التي تخدم مصالحه، ومن حق لبنان حماية نفسه، لأن لبنان تحمل على مدار عقود مواجهة الكيان الصهيوني، كما أن بيروت كانت ملاذاً ومركزاً لكل المثقفين العرب ومركزاً حضارياً نافس أهم العواصم العالميّة، ولم يكن لبنان بيوم من الأيام مركزاً لتصدير الإرهاب ومصنعاً للجماعات الإرهابية، كما يريد البعض تصويره، وتشبيه المقاومة بالإرهاب هو تزوير وتشوية للحقيقة.
لبنان لم يعتدِ على أحد، ولكن البعض يريد مصادرة حقه بإبداء الرأي كما حدث مع الوزير السابق جورج قرداحي، عندما وصف العدوان على اليمن بالحرب العبثية. فاليوم هناك محاولة جاده لتفريغ الدولة اللبنانية وتهميشها ولا تختلف هذه المحاولة عن الاجتياح الصهيونيّ لبيروت في ثمانينيات القرن الماضي. ومَن ساعد الصهاينة على اجتياح بيروت بالأمس يساعد دول الخليج اليوم على اجتياح لبنان وأسر شعبه بحجة الدعم الاقتصادي وشعار قوة لبنان في ضعفه وعزله عن محيطة وجعله مركز استجمام فقط لأثرياء الخليج وليس بكل ما ورد من شروط أي عبارة تخدم الشعب اللبناني او حكومته. ولا تعني الوثيقة حياة المواطنين الذين تبخّرت ودائعهم واموالهم ولم تمر الوثيقة على دعم عودة اللاجئين السوريين للتخفيف عن الدولة اللبنانية أعباء كثيرة. فالمخيمات السورية في لبنان هي نتيجة العدوان على سورية، وكان الهدف منها إثقال كاهل الحكومة اللبنانية في وقت لم تستقبل أي من دول الخليج أي لاجئ سوري من دون تأشيرة دخول وكفيل.