الصعود روسيّ والممانعة أميركيّة والساحة أوروبيّة
ناصر قنديل
– يعترف الأميركيون بصحة ما قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بأنهم يواجهون حرباً باردة جديدة مع صعود روسي لم يعد موضوعاً للنقاش والتأويل، لكنهم يحاولون زرع العقبات في طريقه، في لحظة دولية وأميركية شديدة الصعوبة، ومصاعبها آخذة في التزايد. فمن جهة هم أمام روسيا الواقعية التي تعرف جيداً أين تختار ساحات النزال، دون مبالغة بالقدرات، وقد رسمت حدود أمنها القومي بين أفغانستان وقزوين وسورية والبلطيق، وقررت ان تذود عنه، وامتلكت ما يكفي لفرض الوقائع بالتراكم البطيء والقرارات الجريئة. وقد اختبرت واشنطن في عهدي رئيسين سابقين هما الرئيس دونالد ترامب الجمهوري المتطرّف، والرئيس باراك أوباما الديمقراطي الدبلوماسي الذي كان الرئيس الحالي جو بايدن نائباً له وشريكاً في السياسات الخارجية من موقعه الآتي من رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي لعقود عديدة. وكانت النتيجة برغم الجدية الأميركية في استخدام كل الأدوات والإمكانات، عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً ومالياً، الفشل الذريع، فثبتت روسيا وجودها وحضورها وثباتها في سورية، رغم حجم وموقع مكانة الحرب على سورية في سياسات إدارتي أوباما وترامب، وكانت حاضرة في قرار بايدن للانسحاب من أفغانستان، وخاضت مخاطرة رشيقة وفاعلة انتهت بنجاح في كازاخستان. وقبل كل ذلك فاجأت عام 2014 بكيفية تعاملها مع ملف أوكرانيا الساخن مجدداً، عندما ضمّت شبه جزيرة القرم وبات الأمر اليوم خارج النقاش.
– الممانعة الأميركية للصعود الرئيس ناجمة عن عدة أسباب غير السبب المبدئي للتوسّع والهيمنة والدفاع عن المكانة، والأسباب الجديدة عامل إضافي للحاجة الى الممانعة بل سبب لجعلها حتميّة، فالإدارة الحالية تواجه وضعاً داخلياً شديد التعقيد أمام تراجع اقتصادي وتفكك اجتماعي وانقسام سياسي، وأمام حلفاء قلقين يعيشون هاجس الضعف والتراجع الأميركيين، ويشعرون بعدم الثقة بالقدرة على السير تحت القيادة الأميركية. وبالمقابل تواجه هذه الإدارة مشهداً دولياً في ساحات متعددة يجعل الممانعة الأميركية للصعود الروسي ضرورة لتأخير إعلان الهزيمة الأميركية بوجه القوى الصاعدة، من الصين الى إيران، وضرورة للحفاظ على وضعيّة حلفاء رئيسيين لها يترنّحون تحت وطأة ضربات خصوم حكوميين وغير حكوميين، كحال دول الخليج و”إسرائيل”. وفي ظل بدء حلفاء كثر بالتموضع نحو تحالف موسكو وبكين وطهران، تجد واشنطن أنها محكومة بالتحرك، لأنه من دون وضع حد للتراجع ولو بصورة مؤقتة سيكون الانهيار دراماتيكياً، وستواجه الإدارة الأميركية تسارعا في الانهيارات الداخلية والإقليمية، أو تجد نفسها منخرطة بورطة عسكرية في زمن السعي للملمة بقايا التدخلات الفاشلة بهدوء، بعد الانسحاب العاصف من أفغانستان، وقد وجدت في أوكرانيا الساحة الأنسب لفعل ذلك، حيث أفضل عناصر الاشتباك. فهناك دولة من بقايا الاتحاد السوفياتي السابق تحكمها نخبة ليبرالية تتطلع للانضمام لحلف الناتو، وهذه الدولة على حدود الأمن الأوروبي، وتثير المواجهة مع روسيا حولها كل عناصر الهواجس الأوروبية، وتتيح إعادة حشد الموقف الأوروبي الذي أصابه الإحباط بعد الانسحاب من أفغانستان، وتفتح الباب لوضع قواعد اشتباك لوضع حد للإندفاعة الروسية التي قدمت عرضاً مبهراً بتدخل سريع وفاعل في كازاخستان.
– تحاول واشنطن خوض المواجهة على حافة الهاوية، بالتلويح بالاستعداد للذهاب الى المواجهة، غير العسكرية طبعاً، ملوحة بالعقوبات القاسية، والقطيعة الكاملة، ووقف العمل بالتفاهمات النووية وغير النووية، لكنها تتجاهل ثلاث حقائق: الأولى أن روسيا مستعدة للذهاب أبعد منها، وهي متحرّرة من الكثير من القيود التي تكبل الحركة الأميركية، وهي تملك تحالفات أوكرانية تتيح خوض المواجهة من وراء ستار محلي معترف بخصوصيته، وفقاً لمسار النورماندي واتفاقات مينسك، التي تتخذها موسكو إطاراً للمعركة حول أوكرانيا. والثانية ان المواجهة تدور على الحدود الروسية، وليس على حدود أميركا، وأن روسيا لا تملك ترف التراجع، وهي لم تفعل ذلك في سورية، البعيدة آلاف الكيلومترات عن الحدود الروسية. والثالثة أن الأدوات التي تهدد بها واشنطن لفرض تعديل الموقف الروسي ثبتت عدم فاعليتها وجهوزية موسكو لتحمل تبعاتها، وهي تستثمر على كل هذه الحقائق في توقيت جديد أفضل بالنسبة لها، سواء لجهة أن المرحلة الجديدة هي مرحلة التحالف الاستراتيجي الروسي الصيني الإيراني بكل مفاعيله الاستراتيجية والمالية والاقتصادية والعسكرية، أو لجهة أن المرحلة عنوانها التراجع الأميركي منذ الانسحاب من أفغانستان.
– هذه المواجهة مرشحة للاستمرار على صفيح ساخن، دون بلوغ لحظة الانفجار، ودون بلوغ مرحلة التسويات، فواشنطن لا تحتمل أياً منهما، وموسكو لن تتفادى الانفجار، ولن تتخلى عن شروطها للتسوية. وفي قلب هذه السخونة، تتحول أوروبا الى ساحة حرب، فيتراجع الاقتصاد، وترتفع أسعار الطاقة، وتتراجع أسعار الأسهم، وترتبك السياسات، ولذلك تواجه واشنطن مخاطرة في منتصف الطريق، عنوانها انخفاض قدرة التحمل الأوروبي، وبدء التسرب نحو البحث عن ثنائيات مباشرة مع موسكو، وللدفاع عن ضمان حق نظريّ لضم أوكرانيا لحلف الناتو، تشعر واشنطن أن ارض الحلف بدأت تتشقق، وأن الحلف يتفسخ.