الحريرية… بين السياسي والشخصي!
أحمد بهجة
أعطى خروج الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسية في لبنان، بالطريقة التي خرج أو أُخرج بها ومعه تيار المستقبل، الدليل القاطع على أنّ الحريرية السياسية إنما أُنشئت بقرار خارجي في الأساس، ثم أخذت أبعاداً داخلية في ما بعد نتيجة الوجود في السلطة وما توفره السلطة ومعها المال السياسي من قدرة على التأثير في المجتمع واستقطاب المؤيدين والمناصرين، هذا فضلاً عن استغلال العصب الطائفي والمذهبي لتثبيت دعائم هذه الشعبية.
وإذا عدنا قليلاً إلى وقائع نشأة الحريرية ووجودها السياسي نجد أنّ الرئيس الراحل رفيق الحريري حين وصل إلى السلطة في المرة الأولى عام 1992 لم يكن نائباً ولا رئيساً لكتلة نيابية ولا زعيماً شعبياً، ولم يكن تيار المستقبل قد تأسّس بعد، إنما أتى نتيجة تفاهم سوري ـ سعودي دعمته الولايات المتحدة، وهو التفاهم الذي جرت ترجمته من خلال اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب الأهلية.
وكما كانت الولادة بقرار خارجي، ها هي المغادرة تتمّ بقرار خارجي أيضاً، لكن مع اختلاف بعض الظروف بين القرارين، إذ انّ قرار الولادة كانت أسبابه سياسية، ونتج عنه الدخول بقوة في كلّ مفاصل الوضع اللبناني. أما قرار الخروج من الحياة السياسية فله أسباب محض شخصية تخصّ ولي العهد السعودي والرئيس سعد الحريري وحدهما، رغم أنّ الأخير حاول في بيان العزوف أن يعطي للأمر أبعاداً سياسية قبل أن ينهيه بذرف الدموع.
وإذا استعرضنا المحطات التي ذكرها سعد الحريري في بيانه كأسباب دفعته لاتخاذ قرار تعليق المشاركة في الحياة السياسية نجد أن أوّلها الدخول في التحالف الرباعي في انتخابات العام 2005، والذي يعرف القاصي والداني أنّه أعطى الأكثرية النيابية لفريق 14 آذار… فيما يعتبر البعض أنّ لبنان لا يزال يدفع ثمن ذلك التحالف إلى اليوم.
ولم يذكر الحريري المحكمة الدولية التي لم تعمل في القانون كما يقتضي أن تعمل كلّ محكمة، بل عملت في السياسة ووفق التعليمات الصادرة عن الولايات المتحدة ومعها مَن معها من دول أوروبية وخليجية وصولاً إلى دولة العدو، وكلّ ذلك لاستهداف المقاومة وشيطنتها أمام الرأي العام المحلي والعربي والدولي.
وإذ أتى الحريري على ذكر 7 أيار، فإنه نسي أو تناسى أنّ هناك 5 أيار والتوجيه الخارجي للتآمر على سلاح المقاومة الذي صنع للبنان أعظم الإنجازات في التحرير عام 2000 ثم الانتصار الكبير على العدو الصهيوني عام 2006.
كذلك الأمر بالنسبة لزيارة سورية عام 2009، وهي زيارة قام بها الحريري بناء على توجيه خارجي، وتحديداً من السعودية التي دخلت يومها في مرحلة «السين سين» والتي تخللتها زيارة قام بها الملك عبدالله إلى دمشق عام 2010، ومنها أتى إلى لبنان برفقة الرئيس الدكتور بشار الأسد.
ولما انتهت مفاعيل «السين سين» وبدأت الحرب الكونية ضدّ سورية سار الحريري وتياره وفريقه السياسي في الركب المتآمر، وكان دورهم من أسوأ الأدوار في دعم الإرهابيين وإباحة الحدود أمامهم في أكثر من منطقة متاخمة لسورية، وإمدادهم بكلّ وسائل الدعم بما في ذلك السلاح والمال والإعلام، ومَن من اللبنانيين ينسى قصة الحليب والبطانيات التي اشتهر بها أحد نواب تيار المستقبل يومها.
وإذا كان من محطة خالف فيها الحريري تعليمات المملكة فهي ربما مرحلة دخوله في التسوية الرئاسية بالشراكة مع الرئيس العماد ميشال عون، لكن ذلك تمّ برضى فرنسي ـ أميركي، والدليل أنه حين احتجز في السعودية عام 2017 وأجبر على الاستقالة، أنقذه الضغط الذي مارسه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على ولي العهد السعودي، طبعاً بمواكبة من موقف محلي صلب جسّده الرئيس عون ومعه وزير الخارجية جبران باسيل وحزب الله ومعظم القوى اللبنانية، فيما أيّد البعض لا سيما حزب القوات ورئيسه سمير جعجع الاستقالة وطالب بإجراء استشارات نيابية سريعة لتكليف شخصية أخرى لتشكيل حكومة جديدة، وهو الموقف الذي لم يغفره الحريري لجعجع وحزبه، وما يحصل اليوم بين الجانبين خير دليل على ذلك.
وآخر محطة سياسية فعلية للحريري في لبنان قبل قرار التعليق تمثلت بعجزه عن تشكيل الحكومة، حيث بقي نحو 11 شهراً رئيساً مكلفاً ولم يستطع إنجاز المهمة بسبب الفيتو السعودي عليه، والذي جعله أخيراً يعلق مشاركته في الحياة السياسية ومعه تيار المستقبل، من دون أن يحظى هذه المرة بأيّ دعم أوروبي أو أميركي، بل بالعكس أتت المواقف الغربية لتؤكد عدم ممانعتها خروج الحريري، وكذلك هي معظم مواقف الداخل لا سيما في دار الفتوى وفي نادي رؤساء الحكومات السابقين الذين أكدوا عدم مقاطعة الانتخابات تضامناً مع الحريري، إضافة إلى دخول بهاء الحريري إلى الساحة السياسية وإعلانه أنه سيواصل مسيرة والده… ولم يظهر بعد إذا كان هذا الموقف أتى بدعم من السعودية ولكن على الأقلّ ليس هناك فيتو سعودي على بهاء.
في الخلاصة فإنّ كلّ ما تقدّم يثبت بالدليل الملموس أنّ تعليق سعد الحريري مشاركته وتياره في الحياة السياسية أتى لأسباب شخصية تخصّ علاقته الخاصة مع السعودية وتحديداً مع ولي العهد، وكلّ ما قيل في السياسة ليس سوى للتعمية والتمويه على خطوة يبدو أنّ الزمن سوف يتجاوزها بسرعة قياسية…