إلى قيادتي أمل والتيار
ناصر قنديل
– منذ انتخاب الرئيس ميشال عون نهاية عام 2016، تصرف التيار الوطني الحر على قاعدة اعتبار أنه محصن بثلاثة حلفاء كبار هم حزب الله والرئيس سعد الحريري ومعه تيار المستقبل، وسمير جعجع ومعه حزب القوات اللبنانية، وبالتالي فهو بغنى عن الاهتمام بالعلاقة برئيس مجلس النواب نبيه بري، بل إنه يملك ترف تصفية الحساب معه لكونه لم ينتخب العماد عون للرئاسة. فتراوحت العلاقة مع بري من جانب التيار خلال النصف الأول من ولاية العهد بين ادارة الظهر والمناكفة والتحدي. وبالرغم من تشخيص التيار المديد لربط الفساد بما أسماه بالحريرية السياسية، كان سهلاً على التيار تبرير التحالف مع الحريري ونقل توجيه التهمة الى بري، بعد تغييب نص الحريرية عن الخطاب السياسي والحديث عن «المنظومة». وبالمقابل كانت حركة أمل التي أصيبت بخذلان حليفها الرئيس الحريري لتحالفه معها المنعقد على ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية، وذهابه وحيداً للتفاهم مع التيار الوطني الحر على رئاسة العماد ميشال عون، قد تموضعت بدلاً من ادارة الظهر للحريري، بمحاولة تأديب التيار وإفهامه ان هذه الثنائيات لن تفيده ما دامت لا تضم تفاهماً مع امل، ولذلك اعتمدت على قاعدة السلبية في التعامل مع كل حاصل لتفاهمات التيار والمستقبل، والنظر اليها بعين الشبهة السياسية والطائفية والمالية، والسعي لعرقلة مخرجاتها وإفشالها، لتلقين الفريقين درسا كي لا يكررا محاولة تشكيل ثنائيات تستثني أمل ورئيسها رئيس مجلس النواب نبيه بري.
– لم ينفع تشارك الحركة والتيار بتحالف كل منهما مع حزب الله لتفادي الخلاف والتصادمات التي نتجت عنه. فقد غلبت قاعدة النظر للضرة على تعامل كل منهما مع الآخر، حيث لا يتسع الزواج الا لزوجة واحدة مميزة، وحيث الضرّة مكروهة ومذمومة، بدلا من نظرية الأخوة التي تتسع للمزيد، فنظر التيار لما أسماه فشل التفاهم مع الحزب بعين تحميل تفاهم الحزب مع أمل مسؤولية هذا الفشل، وعندما تحدث عن تطوير التفاهم كان القصد هو فك الحزب لتحالفه مع أمل، ولم يتهيّب التيار توجيه الاتهام للحزب باعتبار تحالفه مع أمل تعبيرا عن أولوية طائفية في حساباته، متجاهلاً أن التحالف الناشئ منذ انتخابات 1992، كان عنوانه شراكة الفريقين في المقاومة والتحالف مع سورية وإيران، والنجاح بنقل التفاهم حول المقاومة الى تحالف سياسي عنوانه السعي لقانون انتخاب خارج القيد الطائفي قائم على النسبية، وإقامة دولة المواطنة، كشرط لأي بحث في الإصلاح السياسي؛ بينما ارتكزت أمل الى متانة حلفها مع الحزب، لتصوير كل خطاب للتيار يسعى لمحاكاة العصبية المسيحية، تحت شعار الحفاظ على شعبية التيار، بصفته تعبيراً عن تموضع التيار على ضفاف خطابه السابق بدعم القرار 1559، والتمسك بنظام الامتيازات الطائفية الذي أنهاه اتفاق الطائف، وصولا للتشكيك بسلامة موقف التيار وصدقيته في التحالف مع حزب الله وجديته في دعم المقاومة، مستفيدة من كون التيار الذي سوق التفاهم مع حزب الله مسيحياً بصفته مصدر استعادة ما سماه بالحقوق المسيحية، كقانون انتخاب الستين والثلث الضامن في اتفاق الدوحة، ووصول العماد عون للرئاسة وقانون التمثيل النسبي مع التصويت التفضيلي الطائفي، أخذ يجاهر بطلب المزيد لتبرير التفاهم من جديد.
– في السنوات اللاحقة لاستقالة الحريري وانفجار الأزمة مع انتفاضة 17 تشرين 2019، التي استهدف ناشطوها الطرفين، تموضع الفريقان على ضفاف متقابلة. فبدا التيار ساعياً لخطاب مسيحي يستعيد مفردات ما قبل الطائف لجهة صلاحيات رئيس الجمهورية والتباعد الثقافي والاجتماعي بين البيئتين المسيحية والاسلامية وتسجيل الانتقادات على دور حزب الله خارج لبنان، وبدت أمل متمسكة بصيغة تفاهمات ما بعد الطائف التي جمعتها بكل من الرئيس الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط، واعتبار وقوفهما خارج الاستجابة لدعوات الفتنة بوجه حزب الله بوليصة تأمين لأغلبية أخرى لا تضمّ التيار، يمكن مقايضة انتاجها ببعض المصالح الداخلية للحفاظ على بقائها كضمانة خلفية لعدم تعريض المقاومة لانكشاف ظهرها، وصار التجاذب بين أمل والتيار، يتمحور حول شدّ وجذب لحزب الله، مرّة باتجاه التمسك بعودة الحريري لرئاسة الحكومة، وما تعنيه من إقامة توازن بوجه ما تبقى من ولاية الرئيس ميشال عون، ومرة مقابلة بالضغط لمساندة المجيء برئيس للحكومة يريح رئيس الجمهورية في ممارسة صلاحيات أوسع، خصوصاً لجهة ضمان تعيينات مسيحية تثبت زعامة التيار وإمساكه بمفاصل مؤثرة في الدولة، دون أن ننسى ان الفريقين اللذين كانا يؤكدان تحالفهما مع سورية، لم يترجما تعاملهما مع سورية خلال الحرب التي شنت عليها ببادرة زيارة رئاسية، بينما كان حزب الله يضع كل مصيره ودماء مقاتليه للفوز بهذه الحرب الى جانب سورية، والسبب كان واضحاً وهو مراعاة السعودية وعدم إغضابها، كأنما سورية عشيقة سريّة والسعودية زوجة شرعيّة.
– يختصر تمسك أمل بحاكم المصرف المركزي رياض سلامة، رغم كل الفشل الذي أصيبت به محاولات تجميل صورته او المخاوف والتحذيرات من مخاطر إقالته على سعر الصرف، ومقابله تمسك التيار الوطني الحر بالقاضي طارق بيطار، رغم كل الفشل برفع الريبة والشك عن سلوكه واتجاهاته في التحقيق، سياسات النكاية والكيد التي تحكم علاقات الفريقين. وإذا كان عذر أمل هو منع التيار من السيطرة على المصرف المركزي عبر تعيين حاكم يدين له بالولاء، انطلاقاً مما تفرضه الهوية الطائفية للحاكم من كلمة فصل لرئيس الجمهورية، فإن عذر التيار هو محاكاة شارع مسيحي متوتر منذ 17 تشرين وزاده تفجير المرفأ توتراً، ولا يمكن للتيار الا مجاراته، وفي الحصيلة ما يقوله التيار عن سلامة كعنوان للسياسات الأميركية التدميرية والإفلاسية، وما تقوله أمل عن القاضي بيطار كرأس حربة في الهجمة الأميركية على المقاومة وشيطنتها، صحيحان بالقدر نفسه، فيقف الأميركي المهيمن على الدولة العميقة مستثمراً على تناقضات حلفاء المقاومة لتسهيل الانقضاض عليها، مستفيداً من فشل الفريقين في ترجمة مفهوم السياسة بصفتها القدرة على ادارة تفاهمات تكتيكية مع خصوم استراتيجيين وادارة خلافات تكتيكية بين حلفاء استراتيجيين.
– في النقاش حول ملفات حيوية كأسباب الأزمة المالية وأزمة الكهرباء يفيض خطاب الطرفين بالتهرّب من المسؤولية، والذهاب الى المناكفات باستعادة خطاب الخصوم، فيصير تعطيل الانتخابات الرئاسية لفرض وصول العماد عون الى الرئاسة ومقابله إمساك بري باللعبة البرلمانية هي اسباب الأزمات، وفقاً لسردية كل من الطرفين، وتغيب المراجعة النقدية الذاتية، حيث لم يمارس أي من الفريقين حق الفيتو الذي امتلكاه بالتساوي، لوقف سياسات الاستدانة بلا حدود وسياسة تثبيت سعر الصرف، اللتين تختصران اسباب الأزمة المالية، بل تشاركا في التنافس على ما بدا أنه عائدات شعبوية وانتخابية لهذه السياسات، في مشاريع مناطقيّة، وقدر من البحبوحة الاقتصادية الوهمية لذوي الدخل المحدود، قبل انفجار الفقاعة. وفي الكهرباء من المضحك سماع الحديث عن بناء المعامل وتبادل مسؤوليات التعطيل بين الفريقين، وتجاهل حقيقة أن كلفة التشغيل التي تشكل المحروقات كتلتها الرئيسية هي مصدر نزيف الكهرباء، وأن غياب المعامل كان ممكناً تعويضه باستجرار الكهرباء او استئجار البواخر، واكلاف الاثنتين اذا حسمت منها أكلاف الوقود التشغيلية لا تعود عبئاً يحتسب، بينما لا ينهي الأزمة ولا النزيف امتلاك قدرة إنتاج 24على 24، ما بقيت تعرفة الكهرباء الشعبويّة لا توفر جباية تشتري هذا الوقود، الذي يتشكل منه رقم الملياري دولار سنوياً للعجز ورقم الـ 40 مليار دولار لعشرين سنة، ومضحك من يقول كنا بنينا عشرات المعامل بالمبلغ، لأنه يتجاهل الإجابة عن سؤال، وكي تشغل هذا المعامل وبأي أموال؟ أما في الاتهامات المتبادلة بالفساد، فالمضحك البمكي هو أن أياً من الفريقين لم يبادر لتقديم اي ملفات جدية للقضاء تدين رموز الفريق الآخر، رغم تباهي التيار بنزاهة قضاة يواجهون الفساد ويحسبون عليه، وتمسك امل بالمدعي العام المالي، وبقيت الاتهامات على صفحات التواصل الاجتماعي والتصريحات الموسمية عند اشتعال التخاطب العدائي.
– اليوم على أبواب الانتخابات، مشهد سياسي يقول للفريقين إن زمن الرهانات الخاصة انتهى، فالحريري خرج من الساحة السياسية، رغم إطاحة حكومة الرئيس حسان دياب كرمى لعيون عودته رئيساً للحكومة من جانب أمل، وفرص المجيء برئيس حكومة يناسب التيار لم يعد ممكناً ولا هو مطروح، وقد تم تعطيل أية فرصة نجاح لحكومة الرئيس دياب بوهم اغتنام مثل هذه الفرصة لما تبقى من العهد، وفيما تثبت الوقائع ان إنجازات حكومة دياب لجهة التوقف عن سداد اليوروبوند ووضع خطة التعافي الاقتصادي والمالي، لا زالت تشكل المرجعية الوحيدة لأي نهوض جديد، وانها تمت من وراء الفريقين ودون تعاونهما معاً او مع رئيس الحكومة يومها، لا بل إن محاولة إطاحة هذه الانجازات تمت على ايدي لجنة نيابية تمثل فيها الفريقان بالتكافل والتضامن، والتعاون مع حاكم مصرف لبنان، وها هو حلف امل مع الحريري وجنبلاط وقد أطاحته السعودية، ومراعاة السعودية من الطرفين لم تنجح بثنيها عن قيادة معركة إسقاط لبنان، أملاً بإسقاط المقاومة فيه، واستهداف حلفاء المقاومة وفي الطليعة الفريقين. وفي الانتخابات يحتاج التيار تصويتاً ممكناً الى جانبه من أمل في عدد من الدوائر، وتحتاج أمل الى تصويت التيار لرئيسها في رئاسة مجلس النواب، ويحتاج تحصين المقاومة وتمكينها من مواجهة الحصار والضغوط الى تحويل الثنائية التي تجمع كلاً من الفريقين بحزب الله الى ثلاثية تضمهما معاً والحزب، سرعان ما تصير رباعية تضم تيار المردة ورئيسه الوزير السابق سليمان فرنجية، وخماسية تضم النائب طلال ارسلان والحزب الديمقراطي اللبناني، وسداسية تضم اللقاء التشاوريّ بزعامتي النائبين فيصل كرامي وعبد الرحيم مراد، وسباعية بضم الطيف الوطني الممثل بالحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العربي الاشتراكي وسائر الأحزاب والشخصيات الوطنية، والكل تمزق حركته شدة الاستقطاب بين محورين لصراع وهميّ طرفاه حركة أمل والتيار الوطني الحر، ويكفي لإطفاء نيرانه البدء بالتفاهم على إقصاء كل من حاكم المصرف المركزي والمحقق العدلي، والتسليم بأن اعادة انتاج الأغلبية ممكن جداً، وأن مأزق الخصوم أكبر، وأن رئاسة الجمهورية استحقاق إقليمي وليس لبنانياً فقط ومن المبكر التخاصم على خلفية مقاربته المبكرة، والمبكرة جداً.