الجوع وبركان الغضب المكتوم!
د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن أسباب الغضب الجماهيري، فكلّ حراك جماهيري له أسبابه التي قد تكون اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، وعلى الرغم من اعترافنا بأنّ الحراك الجماهيري الذي شهدته غالبية الدول العربية في نهاية العام 2010 ومطلع العام 2011 لعبت فيه القوى الخارجية دوراً بارزاً، إلا أنّ ذلك لا يمنع التأكيد على أنّ التربة الداخلية كانت مليئة بالعديد من الأسباب التي ساعدت على اشتعال النيران بسهولة، وكان السبب الاقتصاديّ أحد الأسباب الرئيسية في تونس ومصر واليمن، وهو السبب الذي لا يمكن اعتماده في بلدان أخرى مثل ليبيا وسورية التي كانت أوضاعهما الاقتصادية مستقرة إلى حدّ كبير.
وإذا ما حاولنا مراجعة أسباب الحراك الجماهيري في مصر كنموذج للأسباب الاقتصادية سنجد أنّ أهمّ تداعيات حراك 25 يناير هي سياسات حكومات مبارك المتتالية التي أفقرت الغالبية العظمى من المصريين، وأثقلت كاهلهم بأعباء ضريبية تفوق قدراتهم، وقد تنوّعت وتعدّدت هذه الضرائب بشكل أذهل المصريين، فكلّ يوم تقوم حكومات مبارك باختراع ضريبة جديدة لسلب أموال الفقراء مما جعل بعض الاقتصاديين يصفون الحكومات المصرية بحكومات الجباية باعتبارها الوظيفة الأساسية التي تقوم بها الحكومات وتجيدها، وللأسف الشديد كان الفقراء والكادحون هم مَن يدفعون هذه الضرائب في الوقت الذي لا يدفع فيه الأثرياء أيّة ضريبة بل يتفنّنون في التهرّب من الأعباء الضريبية، وعندما كنا ننادي بضريبة تصاعدية كانت الحكومات تتعامى عن هذه المطالبات العادلة.
وعشية قيام حراك 25 يناير كانت نسبة مَن يعيشون تحت خط الفقر في مصر قد وصلت إلى 41 % وفقاً لتقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، في حين كانت تشير تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أنّ النسبة لم تتعدَّ 25%، وسواء أخذنا بالتقارير الدولية أو المحلية فإنّ أوضاع المصريين كانت تنذر بقنبلة على وشك الانفجار، ولم تحاول الحكومة ومعها النظام السياسي برمّته احتواء الموقف خاصة مع تصاعد الاحتجاجات الفئوية التي سجلت أرقاماً غير مسبوقة في تاريخ المجتمع المصري خلال السنوات الثلاث الأخيرة من 2008 حتى مطلع 2011، وبالفعل كان البركان الذي اقتلع معه الحكومة والنظام السياسي بأكمله، فعندما اندلعت شرارة الحراك كان الفقراء والكادحون والمهمّشون هم الوقود الحقيقي له، وكانوا هم الطوفان الهادر الذي اقتلع مبارك ورجاله الراسخين فوق كراسيهم من جذورهم، وكانت مطالب الغالبية العظمى من المصريين محددة في العيش الكريم والعدالة الاجتماعية.
وانتظر المصريون أن تتحسّن أحوالهم المعيشية في أعقاب حراكهم الجماهيري لكن ما حدث هو زيادة الأعباء وارتفاع الأسعار وتدهور أكثر في أحوالهم المعيشية بحجة عدم الاستقرار وأننا نمر بمرحلة انتقالية. وانتهت هذه الفترة وتحمّلها الفقراء والكادحون والمهمّشون بصبر، وجاءت جماعة الإخوان المسلمين لسدة الحكم وتفاءل المصريون بأنها جماعة ترفع شعارات دينية وأنها سوف تراعي الله في الفقراء كما كانت تعِدهم، لكن ما حدث هو العكس حيث ارتفعت معاناة الفقراء أكثر فأكثر مما جعلهم يخرجون على الجماعة ثائرين بعد أقلّ من عام وتمّت الإطاحة بهم. وظلت مطالب الفقراء نفسها كما هي العيش الكريم والعدالة الاجتماعية، ووعدتهم الحكومة الجديدة بتحقيق مطالبهم بشكل تدريجي تحت الحجة نفسها عدم الاستقرار والمرحلة الانتقالية. وصبَر فقراء مصر صبر أيوب. ومرت المرحلة الانتقالية مع مزيد من الأعباء وارتفاع الأسعار وتدهور الأحوال المعيشية وارتفاع نسبة الفقر لتصل إلى 45% يعيشون تحت خط الفقر و25% يعيشون في حزام الفقر وفقاً للتقارير الدوليّة، في حين أنّ الجهاز المركزيّ للتعبئة العامة والإحصاء لا يزال يحدّد الفقراء بنسب تتراوح بين 29% و32% زيادة أحياناً ونقصاناً أحياناً أخرى.
وانتهت المرحلة الانتقالية ودخلت مصر مرحلة الاستقرار لكن لا تزال السياسات الاقتصادية كما هي، بل إننا كلّ يوم ننام لنفيق على كابوس جديد، وكارثة جديدة بفعل السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة والتي تعتمد بشكل أساسيّ على القروض والمنح المشروطة، فالنظام لا يزال يسير وفقاً للسياسات الرأسمالية التابعة التي كان ينتهجها مبارك والتي تعتمد على مجموعة من السماسرة يديرون الاقتصاد الوطني لصالح المشروع الرأسمالي الغربي، هؤلاء السماسرة يقومون بسرقة ونهب ثروات الشعب المصري تحت مظلة قانونية داعمة وحامية لهم ولفسادهم، وتعد محاولة الاقتراب منهم أو محاسباتهم محفوفة بالمخاطر.
وبالطبع في ظلّ هذه الظروف الاقتصادية المتردّية لم تجد الحكومة العاجزة حلولاً غير الحلّ القديم الجديد لمواجهة العجز المستمر في الميزانية العامة وهو فرض ضرائب جديدة، فسمعنا عن ضرائب جديدة ومستحدثة كضريبة القيمة المضافة والتي تبعها بالضرورة ارتفاع في أسعار السلع والخدمات الأساسيّة، وهذا الارتفاع تستطيع الشرائح والفئات والطبقات الاجتماعية العليا المحظوظة مواجهاتها، بينما تعجز الغالبية العظمى من المصريين من الفقراء والكادحين والمهمّشين تجنب تبعاتها.
وبالطبع هذا الوضع الاقتصاديّ المتردّي يؤدّي إلى مزيد من احتقان الغضب لدى جموع المواطنين الذين يعانون ويتساقطون تحت عجلات الفقر، وبالطبع الوضع في الحالة المصريّة أفضل كثيراً من الوضع في الحالات العربية الأخرى، فالوضع في الحالة الليبية والحالة اليمنية والحالة السورية يزداد تفاقماً، ولم يعد المواطنون قادرين على تحمّل الجوع وهو ما يزيد من بركان الغضب المكتوم الذي يمكن أن ينفجر في أي وقت، اللهم بلغت اللهم فاشهد.