عن العماد… بعض ما يُقال من الذاكرة
ناصر قنديل
– كم نحن محظوظون الذين قيّض لنا أن نعرفه عن قرب باسمه عماد مغنية، وأن ترتبط في ذاكرتنا محطات تاريخية عظيمة مليئة بالإنجازات بحضوره، وأن نشعر بدفء هذا الحضور دائماً، فلم نشعر يوماً أننا نحتاجه او ان الظرف يحتاجه إلا وكان حاضراً، وهو منذ البدايات قائد، فرغم أنني أكبر منه سناً، وفي البدايات أوسع منه حيلة وخبرة وقدرة، ورغم أنه بقي حتى الرحيل يعاملني بتواضع الكبار، أكتشف كلما راجعت دفاتر الذاكرة وقلبت صفحاتها، كيف أنه كان يضعني ضمن خطته و»يشغّلني» من حيث لا أشعر إلا بالفخر، فقد كان منذ التقينا مجدداً خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وتشاركنا القتال على موقع كنيسة مار مخايل وثغرة سينما لبنان في الشياح، اسمه الحاج فقط، وكانت مراسلاته تأتيني عبر شبكة قام هو بترتيبها، ومن ضمنها اختار مقربين بيننا، وصارت تأتيني المراسلات، الحاج يريد والحاج يعتقد والحاج يقترح، والغريب أنني اكتشف اليوم أن كل طلباته عاملتها يومها كأوامر، وفي كثير من الأحيان لم أسأل عن الغرض أو الخطة، وكنت أكتفي بالتلبية والتنفيذ في الجزء الذي يخصني، ونحن ليس بيننا من رابط تنظيمي، بل إن الذين كنت أقوم بدوري بتشغيلهم لتلبية طلبات الحاج يعرفون أن هناك قائداً مجهولاً يُعرف بالحاج يقول ويطلب ويريد، وهم مثلي وبعضهم قادة كبار يلبون وينفذون ولا يسألون، ثم اكتشف لاحقاً أن شبكات من التشغيل المشابهة كان ينظمها ويديرها العماد، بقوة هذا السحر الغامض وهذا الحضور الاستثنائيّ، ونكتشف ان السبب هو انه كان الأخلص والأصدق لفلسطين. كنا نعرف ذلك، ونثق بذلك، ونخجل من أنفسنا إن لم نُشعره بأننا حاضرون.
– في مراحل لاحقة، كانت المقاومة قد صارت مؤسسة قويّة قادرة حاضرة ولاعباً محورياً في الإقليم، صار عماد عيناً ساهرة وأخاً كبيراً، رغم أنه الأصغر سناً بين كل من تربطه بهم صلة من هذا الماضي وتلك الذكريات؛ فكان يرعى ويهتم ويصون ويسأل ويتفقد عن بعد دائماً وعن كثب كلما سنحت له الظروف ليسرق بعضاً من وقت الراحة ليرتب موعداً او يداهم مناسبة أو يوصل رسالة.. وكلمة السر هي ذاتها، الحاج، فكما نقول السيد اليوم وليس هناك في بالنا وبال مَن يستمع الا السيد نصرالله، وكل سيد آخر يجب ذكر اسمه للتعرف إليه، حتى لو كان من الرجالات العظام والكبار، كنا عندما نقول الحاج لا ننتبه أننا نتصرف كأنه بين مئات ملايين الحجاج ليس بيننا الا الحاج عماد، وكل حاج آخر يجب ذكر اسمه بعد كلمة الحاج للتعريف ولو كان من ذوي الشأن والمكانة. وكانت كل رواية مذيّلة بكلمة قال الحاج، كما كل طلب مذيّل بـ «يريد الحاج»، لا تحتاجان التدقيق ولا تحتملان التردّد، بين جمع من الفاعلين والناشطين والسياسيين والقادة، يعرفهم ويعرفونه، وله معهم خلافات كثيرة وله على بعضهم مآخذ كثيرة، لكن مع حبّ كبير، وأمل كثير، وهم لا يخذلونه، لعله يحقق ما أخفقوا في تحقيقه، أو يكون استثمارهم السريّ في مستقبل لم يعد على جدول أعمالهم، أو ككفارة عن ذنب التموضع في لعبة الواجهة ومغرياتها بالمكاسب والمناصب، ولم يتغيّر الأمر عند الذين عرفوه لاحقاً باسم الحاج رضوان، فكانت كلمة الحاج وحدها كافية للتعريف.
– لم يعرفني كفاعل في الإعلام، وأصل معرفتنا ساحات النضال أولاً، ومن ثم ساحات القتال من بنت جبيل في مواجهة الاجتياح الثاني عام 1978 الى الاجتياح الثالث عام 1982، لكنه كان فرحاً بانطلاق إذاعة صوت المقاومة عام 1985 وجريدة الحقيقة ولاحقاً تلفزيون المشرق عام 1988، وكان يدأب على زيارتنا كلما سنحت له الظروف، والسؤال عما يمكن فعله للمساعدة في خطط التطوير، وعندما التقينا عام 2007 بعد حرب تموز، توقف كثيراً في ختام اللقاء أمام الملف الإعلامي يسأل ويحاور، وكان على دراية عالية ودقيقة بتفاصيل المشهد وتقنياته ومشاكله، وعلى معرفة بحجم أهمية الحرب على العقول والقلوب، وعلى أهمية تعدّد منابر خوضها، وكان يقدّر كثيراً دور الشخصيات التي شاركت إعلامياً في الدفاع عن المقاومة خلال الحرب، ويذكرها بالأسماء، مؤمناً بتكامل الحق والحقيقة، والحاجة لمساحات من الحرية والإبداع والجاذبية، بشرط واحد هو عدم الوقوع في الابتذال والإسفاف والغرائزية، وكانت خطته التي قطع سياقها استشهاده رعاية نهضة إعلاميّة من نوع آخر.
– قوله إن ما يقاتل فينا هو الروح كان يختصر مكانته في المقاومة، التي كانت روحها هي التي تقاتل، والحاج عماد هو هذه الروح، ولذلك لا يموت.