الترسيم البحريّ والفوضى اللبنانيّة البنّاءة
ناصر قنديل
– رغم انخفاض مستوى التخاطب في السجال الدائر حول المواقف من ترسيم الحدود البحرية، واستسهال توجيه الاتهام بالخيانة بين أطرافه، يمكن مراقبة السجال بعين ثالثة لا تجد ضرورة الانحياز الى واحدة منها، فكلنا يذكر تبادل الأدوار الذي شهده النقاش حول هذا الملف، وتبادل اتهامات الخيانة فيه، فمع إعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري عن اتفاق الإطار، خرج كثيرون للإيحاء بأن الاتفاق تمّ من وراء ظهر المقاومة، وتريثوا بانتظار ما اعتقدوه موقفاً مغايراً يفترض أن يصدر عن حزب الله، وسارع بعض المتحمّسين يومها لتولي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إدارة الملف الى اتهام الرئيس بري الذي وصل الى اتفاق الإطار على قاعدة استبعاد خط هوف المطروح قبل اتفاق الإطار بسنوات، بالتفريط بحقوق لبنان واعتبار الخط 23 دون مستوى تلبية هذه الحقوق بعدما وضع خبراء الجيش اللبناني إطاراً لترسيم حقوق لبنان السيادية عنوانه الخط 29. وعندما نظمت حملة تخوين الوزراء الذين لا يوقعون على مرسوم تعديل الحدود السيادية المعتمد لدى الأمم المتحدة، كان أغلب الذين نظموا الحملة من وبينهم مناصرون لرئيس الجمهورية، يعتقدون أن توقيع الوزراء سيكون كافياً ليوقع الرئيس على المرسوم، ثم عندما لم يوقع الرئيس وقع هؤلاء بالارتباك، وخرج مناصرون لقائد الجيش يهاجمون رئيسي الجمهورية ومجلس النواب ويتحدثون عن صفقة تشملهما خوفاً من العقوبات الأميركية، رغم التناقض الفاضح بين حديث عن عقوبات اميركية لفرض التنازل عن الخط 29، بينما الجيش هو صاحب المقاربة الأصلية لهذا الخط، والجيش صاحب أفضل العلاقات بالأميركيين من بين كل مؤسسات الدولة الرئاسية والبرلمانية والحكومية، وليس فيه مَن هو تحت الضغط او مهدد بالعقوبات؟
– لم تنج المقاومة من الحملة الضاغطة، تحت عنوان رفع قضية التمسك بالخط 29 الى مرتبة التماهي مع مفهوم السيادة الوطنية، وبين الذين رسموا ويرسمون علامات استفهام حول موقف المقاومة، لا يترددون في القول إنها تبيع الموقف التفاوضي للأميركيين ضمن صفقة التفاوض على الملف النووي الإيراني، كما تجري العادة اللبنانية التقليدية منذ ما قبل تحرير الجنوب، فيقف البعض ضد المقاومة ويتهمها بالتبعية وإخضاع قتالها لحساب موقع ايران او سورية، ويرفع سقوفاً أعلى من سقوفها في مفهوم السيادة، من جهة، ومن جهة مقابلة يدعو لاعتماد البديل الدبلوماسي للمقاومة، في التحرير والحماية، واليوم في الدفاع عن الحقوق السيادية والثروات، متجاهلاً انه لو اعتمد لبنان على دعوتهم للدبلوماسية ولم تقم المقاومة بما قامت به قبل العام 2000، لكان أغلب لبنان لا يزال تحت الاحتلال، ولو لم تقم ببناء قدرة ردع تحولت معها الى قوة إقليمية مهابة، وهي تتلقى كل الانتقادات على هذا الدور، لكانت «إسرائيل» استباحت الثروات اللبنانية في النفط والغاز ونقبت واستخرجت ما تشاء، وتركت للبنان الشكاوى أمام مجلس الأمن الدولي، «ليبلها ويشرب زومها»، والمقاومة التي قالت إنها ستستهدف أية محاولة اسرائيلية لاستثمار ثروات النفط والغاز في المناطق السيادية اللبنانية، وفقاً لترسيم الدولة اللبنانية، أو في المناطق المتنازع عليها، وفقاً لمَ قدمه لبنان على طاولة التفاوض، وما أكده لاحقاً في رسالته الى مجلس الأمن، هي أيضاً المقاومة التي لمحت الى خيار التنقيب عبر شركات إيرانية، ما دفع الأميركيين لتسريع مبادرتهم بالوساطة، بعد تجربة سفن كسر الحصار، وما يدفع بالإسرائيلي لإقامة الحساب لموقف لبنان، لكن المقاومة في البحر غير البر، ففي البر هناك حدود لبنانيّة دوليّة، لا تحتاج موقفاً من مؤسسات الدولة اللبنانية، ولذلك تستطيع المقاومة القول انها ستقاتل دفاعا عن الحدود السيادية للدولة. وهذا ما جعلها لا تتشبث عند اعتبار القرى السبع المحتلة أرضاً لبنانية تطالب الانسحاب منها مثلها مثل مزارع شبعا، رغم ان الدولة اللبنانية منحت أبناءها الجنسية، لسبب واحد وهو ان القرى السبع بقيت خارج الحدود الدولية للبنان في ترسيم الحدود الدولية المعتمدة لدى الأمم المتحدة، بينما مزارع شبعا مثبتة ملكيتها للبنان وضمن حدوده، ومجمع على لبنانيتها من مؤسسات الدولة ورئاساتها، ولذلك حتى لو أرادت المقاومة تبني موقف رفض التفاوض والتمسك بتحرير ثروات لبنان بالقوة بدل الردع، فالسؤال هو مَن يحدد الحدود السيادية، وكيف تضمن المقاومة شرعية ومشروعية معركتها دون مؤسسات الدولة اللبنانية، وحتى لو ارادت المقاومة ادارة الظهر للموقف الدولي وشرعيته، التي تقوم في الحدود البحرية على التفاوض، يبقى ان الشرعية اللبنانية لخط تحميه المقاومة وتدافع عنه، شرط لا يمكن تجاوزه، والا فلماذا لا يطالب احد المقاومة بتحرير القرى السبع انطلاقاً من لبنانية سكانها، ووجودها في النسخة الأولى للحدود الدولية؟ ومن يطالب المقاومة للمزايدة، فليعترف لها اولاً انها صاحبة الفضل بوجود فرصة للبنان لينال فرصة استثمار ثرواته في البحر، وليشرح لنا كيف كان الحال سيكون لولا وجود هذه المقاومة وعزيمتها وقيادتها.
– لا يمكن توصيف هذا الوضع السجالي بغير الفوضى، فهل هي فوضى هدامة أم فوضى بناءة؟ هو السؤال الذي يجيب عليه الجميع باعتبارها فوضى هدامة، داعين لحسم الخلاف، كل بطلب تبني وجهة نظره، لكن ربما تبدو المصلحة الوطنية مستفيدة من هذه الفوضى، فتصير بذلك فوضى بناءة، فإذا كان موقع المقاومة وتأثيرها محسوماً، فإنه لولا نجاح الرئيس بري بإسقاط خط فريديريك هوف، لما كان اتفاق الإطار وبدء التفاوض بحثاً عن بديل، ولولا الخط 29 ودور قيادة الجيش خصوصا وحماسة رئيس الجمهورية، وصولا لمطالبة رئيس الحكومة والوزراء بتوقيع مشروع مرسوم التعديل للحدود نحو الخط 29 لما امتلك الرئيس ورقة الضغط بالتهديد بالتوقيع عليه، ما لم يوافق الأميركيون على التسليم بالانطلاق من الخط 23 تفاوضياً، ولأن الحديث يدور عن خطوط تفاوضية، تبنى على البحث بين خطين، فالانتقال من البحث عن حل بين الخط 1 الذي وقع عليه الرئيس فؤاد السنيورة مع قبرص وتشبثت به «إسرائيل» والخط 23 الذي اعتمده لبنان عام 2011 في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تصحيحا لخط السنيورة، الى البحث عن حل بين الخط 23 والخط 29 مدين لهذه الفوضى البناءة، واليوم يجب التمسك بالأصوات المعترضة على قبول الخط 23 والداعية لعدم التنازل عن أي ملم من الخط 29، لأن الأميركي والإسرائيلي عندما يعتقدان ان وضع المفاوض اللبناني سهل ومريح، سيزيدون الضغوط وصولاً للنيل من الخط 23 نفسه، بينما لا يزال لدى لبنان فرص حقيقية لنيل ما يزيد عن هذا الخط، على الأقل لجهة ضم حقل قانا، فصوت رئيس الحكومة السابق حسان دياب المعترض هو صوت في مكانه، ومثله أصوات سائر المعترضين، وبدلا من التلهي بالتصدي لهذه الأصوات، يجب استثمارها للقول إن في لبنان رأياً عاماً حقيقياً، وهذا صحيح، ولن يتهاون مع اية تنازلات يتم تقديمها عبر التفاوض، بل ان حملات التخوين المؤذية نفسها ربما تبدو هنا مفيدة، للقول للأميركي، لم نوقع بعد وانظروا ما يُقال فينا، فيكف إذا قبلنا تقديم تنازلات؟
– فوضى المواقف تزعج الأطراف، وتؤشر مرات كثيرة الى انتهازية وانتقائية، لكن عائدها النهائي سيبقى مفيداً للبنان، حيث هناك مقاومة ستبقى الرقم الصعب الذي يخشى الأميركي والإسرائيلي إمساكه بزمام المبادرة لمفاجآت تقلب الطاولة، ولذلك كلما علا الصراخ سيسارع الأميركي أكثر تفادياً لأن ينجم عن هذا الصراخ تراجع المفاوض اللبناني عن قبول ما كان ممكناً أن يقبل به.