أين هي القطبة المخفية التي ربطت الألسن وأعمت الأبصار على ضياع حقّ لبنان وشعبه؟
علي بدر الدين
يُحكى أنّ «رجلاً صالحاً» دخل محلاً للمجوهرات، فسأله صاحبه كيف أخدمك، فأجابه «أنا الذي جئت لخدمتك، بعد أن عرفت أنك رجل برّ وخير، وإذ بعروسين يدخلان لشراء مجوهرات الزواج، فيتنحّى «الرجل الصالح» جانباً ثم يجلس على كرسي، وبعد أن اختار العروسان حاجتهما، تمنّى عليهما صاحب المحلّ الجلوس ريثما ينتهي من إعداد الفاتورة، فجلست العروس على الكرسي الذي جلس عليها ذاك الرجل، فقال لها صاحب المحلّ، أنك تجلسين على رجل، فسألته «أيّ رجل هذا، لا أرى أحداً»، ثم خرجت غاضبة، فأبلغه الرجل «لا أحد يراني سواك». بعد حديث قصير بينهما، قدّم الزائر الصالح منديلاً لصاحب المحلّ وطلب منه تنشقه لأنه يجلب البركة ففعل، وإذا به يفقد الوعي ويسقط أرضاً، فقام «الرجل الصالح» بسرقة المجوهرات والأموال.
استفاق «الجوهرجي» وعاد إليه وعيه فوجد محله فارغاً وتمتم «أكلنا الضرب»، لكنه عاد وجمَع مالاً واشترى بضاعة جديدة، وبعد أيام، دخل محله شرطيان ومعهما الحرامي «الصالح» مقيّداً، فعرفه وعبّر عن فرحه بالقبض عليه، عله يسترجع ولو القليل من المسروقات، وأبلغه الشرطيان أنهما أحضراه لتمثيل حادثة السرقة، وفعلاً أجاد تمثيل دوره كأنه ممثل محترف، ثم أعطى المنديل المخدّر «للجوهرجي» الذي وضعه على فمه كما فعل سابقاً، فغاب عن الوعي، فأقدم الشرطيان المزوّران والحرامي على سرقة المحلّ مرة ثانية… وقد يفعلونها مرة ثالثة ورابعة، لأنهم ممثلون بارعون…!
ونحن في لبنان كلما حاول المواطن النهوض، يعود «الرجال الصالحون» من أهل الطبقة السياسية والمالية والسلطوية الى السرقة، مرة فرادى ومرات بالتكافل والتضامن والتحاصص، أحياناً في السرّ وأحياناً أخرى في العلن، وعلى عينك يا شعب ويا قانون ويا أمن ويا قضاء.
هكذا تتمّ سرقة الشعب اللبناني المسكين منذ عقود طويلة، على أيدي هذه الطبقة الفاسدة والناهبة والمستبدة، وإنْ تبدّلت المواقع والأسماء والوجوه والحقبات والعناوين والشعارات، لأنها تعتمد سياسة التوريث السياسي والسلطوي والتحاصصي، وتلقين الورَثة فنون الدجل والتزوير والغش والتمثيل على هذا الشعب، وكيف يأكلون ويسرقون ويصادرون حقوقه المشروعة، رغم أنّ عيونه مفتوحة، ولكنه لا يبصر، ويعرف السارق تماماً، ولكنه لا يجرؤ على ذكر اسمه، ولا يتعظ ولا يتعلم ولا يحذر ولا ينتبه الى أنه يسرق في وضح النهار، إلا بعد أن يستفيق من غيبوبته ويكون «اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب»، وكلما حاول هذا الشعب أن ينهض من جديد، يأتي السارق المجهول المعلوم إلى التمثيل عليه والإيقاع به مجدّداً، ويفقده كلّ شيء، حتى بات فقيراً معدماً وجائعاً ومريضاً وعاطلاً عن العمل ومديوناً وتائهاً في بلده وبلاد الله الواسعة بحثاً عن عمل وأمل.
في ظلّ تراكم الأزمات في لبنان وقد بلغت ذروة تفاقمها، وتنذر بالخطر المستطير حيث الانهيارات تتوالى، وأعداد الفقراء تزداد، والمجاعة تطرق الأبواب وتدخل البيوت والبطون تنتفخ من سوء التغذية وندرتها، والعائلات الفقيرة بدأت تئنّ وتستنجد بمن يملكون المال ويفعلون الخير، وترفع صوتها بأنّ أطفالها يجوعون ويمرضون وقد يموتون من دون دواء أو غذاء، وأصحاب السلطة والمال والنفوذ والاحتكار، يستمرّون في ممارسة هواياتهم في الفساد والمحاصصة والنهب، وفي كنز الأموال وتهريبها إلى الخارج، وفي تمثيلياتهم المملة والفاشلة على هذا الشعب، لتغطية سرقاتهم وفسادهم وجرائمهم الإنسانية التي ارتكبوها بحقه، ولا يزالون على غيّهم، وإنْ بأساليب ووسائل وعناوين ووجوه وأسماء وألاعيب مختلفة ومتجددة.
ها هم اليوم كما بالأمس يضيّعون حقّ لبنان وحقّ الشعب بماله وبمستقبل أجياله، من دون أيّ ردّ فعل احتجاجية أو اعتراضية من أحد، وكأنّ الذي يحصل في موضوع ترسيم الحدود البحرية يحصل في مكان آخر.
السؤال أين هي القطبة المخفية التي ربطت ألسنة الجميع؟ هل هي الانتخابات النيابية التي حجّرت العقول وصادرت المواقف ودفنت مصالح الوطن والشعب، وأحيت بدلاً منها التحالفات، وسوّقت المجاملات من أجل مقعد هنا أو هناك؟
بئس هذه المرحلة التي بلغها لبنان في ظلّ تحكم الطبقة السياسية والسلطوية، التي قوّضت أسس الدولة ومؤسّساتها وأجهزتها وسلطاتها وإداراتها، وخدّرت الشعب وصادرت حقوقه وشلّت إرادته ورمته فريسة سهلة للفقر والجوع والمرض، وحوّلته إلى جسد من دون عقل يفكر، أو روح تجدّد له الحياة.
كلّ همّ هذه السلطة هو أن يبقى هذا الشعب «حياً» حتى موعد الانتخابات، لأنها تحتاج إلى «أصواته» لتملأ بها صناديق الاقتراع، وتجدّد لها البيعة لتقضم وتهضم ما تبقى من أموال عامة وخاصة ولتقضي على ما بقي من شعب ودولة ومؤسسات.
إنها طبقة سياسية أتقنت جيداً التمثيل على شعبها، وإرغامه على التصفيق لها غصباً عنه أو برضاه، لا يهمّ، المهمّ ان تبقى هي متسيّدة وطاغية، وهو عبدها ومن أجلها يقدم الغالي والنفيس والتضحيات الجسام.
أيّ وطن ينتظره اللبنانيون؟ وأيّ إصلاح يتوقعونه؟ بالطبع لا هذا ولا ذاك، لأنّ دخولهم جهنّم بات حتمياً والخروج منها دونه عقبات وانتفاضات وثورات وتضحيات، ولا يبدو لغاية الآن أو في المدى المنظور، أنّ أحداً مهيأ وعلى استعداد للقيام بها وتقديمها على مذبح تحرير الوطن من طبقة جائرة ومتغوّلة وشريرة…