ساحة أوكرانيا «المفترضة» في صراع الحدّ الأدنى…
} فاديا مطر
ليست السياسة الغربية هي التي تحدّد مستلزمات الحراك الذي تستبقه واشنطن في أوكرانيا وتسخين جبهتها، بل ما حمله الردّ الروسي المكتوب الى واشنطن في 17 فيراير/ شباط الحالي هو ما اعتبرته موسكو الردّ الأخير على كلّ خطوة لتلك السياسة المنحدرة نحو المجهول في الاعتبارات الروسية، حيث تغادر التواريخ الأميركية المفترضة ساحة الجغرافيا في كييف دون تطورات التوقع لبدء الحرب الروسية المفترضة على أوكرانيا في شكل سبقته «هستيريا» غربية محمومة كما وصفتها أعلى القيادات في روسيا وحتى في أوكرانيا عندما انتقد مدير الأمن الوطني ومجلس الدفاع الأوكراني اوليكس دانيلوف الدول الغربية المروجة للحرب على أوكرانيا معتبراً أنّ ذلك يدلّ على رعب داخل الأوساط الغربية، والذي لم يخرج الرئيس الأوكراني عن ذات التصريحات معتبراً انها تصريحات تعكس «الرعب» الغربي أيضاً، فما سبب هذه الهستيريا الغربية التي تشقق أوروبا بكثير من المجالات؟
هي «الفوبيا» التي يعيشها الغرب من استعادة دور روسيا وتعاظم مصالحها بكامل معسكرها في مقابل إعادة دور الناتو إلى ما قبل ربع قرن مضى، وهو الهاجس الذي تعيشه الإدارة الأميركية في جملة خساراتها المتراكمة خصوصاً في عهد ترامب وتلاحق تلك الخسارات الى عهد بايدن والخوف من حلف وارسو «جديد»، حيث لا يمكن إغفال ما أعلنته إدارة بايدن في 3 آذار/ مارس 2021 في 24 صفحة من وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الذي ارتبط بمشهد الأمن العالمي وأولويات الأمن القومي الأميركي؛ وتعزيز الاستخبارات وتحديث حلف الناتو الذي كان قد وصفه الرئيس السابق ترامب «بالقديم»، وبرغم تفاؤل هذه الوثيقة في قيادة الولايات المتحدة للمؤسسات الدولية بطريقة المهام والأهداف المقترحة، وهي سياسة معلنة لكنها لا تأخذ بعين الاعتبار «التغيّرات الغير متوقعة» في الساحة الدولية وإغفال الهامش الافتراضي لأخطاء المسار الأميركي الدولي، لكن تلك الوثيقة الأميركية تتابعها واشنطن بعين واحدة على كلّ المستويات التي ذكرتها، فمن الخاسر في حال نشوب حرب في شرق أوكرانيا؟
كل الاعتبارات السياسية والعسكرية والاقتصادية والجيوسياسية تقول نبأ واحد؛ وهو الفشل الذي سيرتبط بمستقبل أوكرانيا وأوروبا وغير المنتهي بالولايات المتحدة الأميركية في حال حدثت الحرب والتي قال عنها الرئيس الأميركي بأنها ستكون بمثابة «حرب عالمية»، حيث سارت تصريحات وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين في ذلك الاتجاه عندما حذرت في تصريح لوكالة فرانس برس بأنّ «فرض عقوبات على روسيا ستكون له تداعيات عالمية ستتكبّد فيها واشنطن الكلفة الكبرى، وهو ما تعمل عليه واشنطن مع الأوروبيين لتطوير سلسلة من العقوبات المالية التي يمكن أن تطال روسيا وأن تشمل ضوابط الصادرات والأفراد والشركات»، فهذا يعني بالشكل الخارجي عدم الدخول الأميركي على خط الصدام العسكري في ساحة أوكرانيا والبقاء في فناء السياسة والعقوبات بالردّ على حرب عسكرية في شرق أوروبا، حيث أكدت مصادر صحافية بأنّ مكالمة الرئيس بايدن مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 17/ شباط الحالي أنّ بايدن تجنب الإدلاء بأيّ مزاعم عن غزووشيك روسي لأوكرانيا، وهو خروج عن التصريحات المعلنة مؤخرا، فهل تقرأ موسكو تلك التحركات بذات السياق؟
فالمحدّدات الروسية لا يمكن تجزئتها عندما تتعلق بالأمن القومي، وإنسحاب بعض الوحدات العسكرية من شبه جزيرة القرم قبيل زيارة وزير الخارجية الإيطالي لموسكو هي خطوة تهدئة تكسب منها موسكو إبقاء الإطار السياسي قيد التفعيل برغم التشكيك الغربي بها، وكانت موسكو قد أعلنت طرد نائب السفير الأميركي من موسكو في خطوة ردّ على ما يمكن أن يكون تحرش أوكراني في شرق دونباس وقصف لمناطق روسية بأسلحة محرمة دولياً بحسب مصادر مطلعة، وهي خطوة تصعيدية نحو ما قالته موسكو بأنّ الردّ العسكري سيكون مطروحاً في حال لم تستوعب واشنطن المخاوف الروسية في معرض الردّ الأخير والتحريض الأوكراني على زرع فتيل نزاع عسكري، حيث لم تتلقّ اوروبا حتى الآن سوى القبول الروسي بالتقاطر الاوروبي على ابوابها بعكس واشنطن التي بادرت بحرب «المناورات العسكرية» والتي ترد عليها موسكو بمناورات مقابلة والتي وضعت المسؤولين الأميركيين والغربيين أمام شاشة عرض لما يمكن أن تفعله روسيا في صيانة محيطها الجيوسياسي وتقديم أولوية أمنها القومي على ما يراه الغرب خارج «نطاق التهديد» في تقدم الناتو والحشد العسكري في شرق أوروبا.
فروسيا التي تعتبر مشكلة أوكرانيا ليست محصورة في بنود أوراق التفاوض التي تتبادلها موسكو مع الغرب، بل عدم مراعاة المخاوف الروسية وعدم إعطاء الضمانات لبنود تخصّ الأمن القومي الروسي هو ما يسبّب تنامي الصراع الى مستويات تصل حدّ التدخل العسكري، والذي حتى الآن لم تبارح به موسكو المسرح العالمي في المكانة الجيوسياسية ولا في دعم الحلفاء، وهي قراءات ما زال يتخبّط في تحليلها الساسة الغربيون والأميركيون وهم العاجزون عن تقدير المقدرات الروسية في وقت طفت مشاكلهم على سطح الإنسحاب القاسي من أفغانستان والفشل في كلّ من سورية واليمن والفراغ الذي بدأت تملأه روسيا باقتدار حتى في شمال أفريقيا والخليج العربي مؤخراً في ميدان اليمن، ولم تكن الخطوات الأميركية ناجعة في تحديد مكانة روسيا برغم المناورات العسكرية واستقدام واشنطن لقاذفات بي 52 العملاقة والتحشيد العسكري الكبير من أوروبا والناتولشرق اوروبا، فكل تلك الساحة تعلم علم اليقين بأن موسكو تسير حتى الآن بخطوات حذرة ومدروسة ومحسوبة بدقة تجاه دولة خرجت من كنف الاتحاد السوفياتي وتعمل على مخالفة قواعد الدولة العميقة التي بنى عليها الرئيس بوتين سياسته منذ العام 2000، حيث موسكو حذرت كييف من أنّ المساس أو الإخلال بإتفاقيات مينسك واللعب بالفضاء السوفياتي سيجلب عواقب كبيرة على كلّ من ساحات الصراع الدولية وخصوصاً في أوروبا التي تتباين مواقفها من فرنسا الى ألمانيا الى إيطاليا وما خفي أكبر، لجهة الخسارة الأمنية والاقتصادية التي تواجهها القارة العجوز على مستوى حامل الطاقة الغازي الأهمّ المغذي لأوروبا، والذي لا يمكن شحنه إلا بطريقتين إحداها عبر أنابيب كما المصدر الروسي والآخر عبر الشحن البري والبحري وهو بحاجة الى تجهيزات كبيرة لتحويله من الحالة السائلة الى الغازية فضلاً عن تكاليف النقل الكبيرة، فهذه لا يمكن لواشنطن تأمينها للقارة التي بدأت تنضب من الطاقة والتي تعاني مشاكل اقتصادية كبيرة على المستوى المعيشي الداخلي بحسب مصادر صحافية ذكرت بأنّ احتياطي الغاز الألماني بدأ بالنفاذ في شهر شباط الحالي بمستويات عالية.
فواشنطن إصطدمت بكل الجدران لجعل روسيا حليف في مواجهة الصين أو حتى الوقوف على الحياد في حربها مع الصين، خصوصاً بعد الصفقة الكبرى في مستهلّ الأولمبياد الشتوي في بكين في 2 شباط الحالي، والذي توّجه الرئيس بوتين بعقد نقلة اقتصادية نوعية شملت قيمة ما يقارب 118 مليار دولار وتوقيع إتفاقية لثلاثين عاماً لتزويد الصين 10 مليارات متر مكعب سنوياً من غاز الشرق الأقصى لروسيا، وهذا بدوره إغلاق منافذ واشنطن في حيّزين مهمّين لجهة الضغط في أوكرانيا لإستمالة روسيا عن المسار الصيني وفك عقد التحالف الاستراتيجي في أهمّ مؤرق دولي لواشنطن، كما أنّ روسيا حتى في العلم الأميركي هي لا تحتاج الى موقف عسكري من الصين في صراعها مع الغرب، بل تعلم جيداً أنّ الجيش الأميركي لن يدخل أوكرانيا وأن بايدن غير متحمّس لانضمام أوكرانيا الى حلف الناتو بحسب صحيفة «فورين بوليسي» الصادرة في 7 شباط الحالي، فما الهدف من تصعيد جبهة كييف على حساب كل الشركاء بما فيهم الكيان الصهيوني؟
روسيا التي تلقت في وقت سابق تبليغ من الكيان الصهيوني بأنّ قاعدة حميميم في سورية تشوّش على حزم /GPS/ الخاصة بهبوط الطائرات «الإسرائيلية» في مطار «بن غورويون»، وأنّ القاعدة تعطل الموجات الكهرومغناطيسية لطائرات الإقلاع والهبوط في تل أبيب، وهو ما ردّت عليه موسكو بأنّ المنظومة الروسية مخصصة لحماية جنودها في سورية، وما المناورات العسكرية الروسية التي حضرها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في طرطوس ولقائه الرئيس بشار الأسد إلا رسالة بالغة الأهمية لواشنطن ومجمل اللاعبين في البحر المتوسط، والتي يُضاف إليها ما ذكرته وسائل إعلامية عن حشد روسيا في الحدود الغربية مع أوكرانيا ل 52 قاذفة صواريخ بالستية استراتيجية قصيرة المدى تحمل بنك أهداف كبيراً فضلاً عن عدد من الوحدات العسكرية للمهام الخاصة والتي تعتبرها موسكو متمركزة في أرض روسية لا يحقّ لأحد الطلب بتراجعها، فهي معادلة الردود الروسية التي هي أبلغ من الحشد العسكري الغربي بالتوازي مع جملة الدفع السياسي الذي لا تزال موسكو تفتح له النوافذ والأبواب لمن أراد العمل عليه، والاعتراف الروسي في مجلس الدوما باستقلال كلّ من دونيتسك ولوهانسك هي أولى الخطوات المدروسة الروسية تجاه ما تخطط له دوائر الاستخبارات الأميركية التي تعمل على أن تدفع كييف الثمن في أمنها واقتصادها وعدم القدرة على تبييض الصفحة مع روسيا بالاعتماد على معسكر يعاني في كلّ مفاصله السياسية والعسكرية والاقتصادية وفشله في استراتيجية المحيطين الهادئ والهندي وبحر العرب والبحر المتوسط والوقوف في وجه دولة ما زالت تملك أكثر من 650 مليار دولار من احتياطي النقد وتعمل على التنامي العسكري والتكنولوجي والسياسي، وربما في لحظة ما ستجد واشنطن نفسها أمام حادثة تشبه «زقاق الطوربيد» الذي هز شواطئ الولايات المتحدة في العام 1945 والذي فشل الرئيس فرانكلين روزفلت في إيقافه؛ وستجد أوكرانيا نفسها في موقع العراق في عهد صدام حسين الذي استغلّ الحرب الإيرانية لتحشيد التعسكر وبعدها كانت عاصفة الصحراء بمقتل من يعتمد على سواعد واشنطن وحلفائها.