تعيين حدود لبنان البحرية مجدّداً…
} د. محمد طي
لا تزال مسألة ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة مثاراً للجدل، ويعود الوسيط الأميركي، وهو اليوم عاموس هوكشتاين، من جديد لمعالجة الأمر.
ونظراً لتشابك المعطيات والآراء في الموضوع، لا بين لبنان والعدوّ فقط، بل وبين اللبنانيين أنفسهم، نرى ضرورة تأكيد بعض الجوانب الواقعيّة والقانونيّة.
فكيف تعيّن الحدود بين الدول المتجاورة؟ وكيف يجب أن تحدّد بين لبنان وفلسطين المحتلّة؟
تعيين الحدود البحريّة
بين دولتين متجاورتين
يقضي القانون الدوليّ بأن يجري التفاوض في ما بين الدولتين المعنيّتين، فإن تعذّرت المفاوضات، أو لم تصل إلى نتيجة، فيمكن اللجوء إلى التحكيم الدوليّ أو إلى القضاء الدوليّ. وقد تبنّت محكمة العدل الدوليّة طرقاً لتعيين الحدود، وكان أبسطها اعتماد الخطّ الوسط، إلى جانب حلول أخرى.
أ ـ الخطّ الوسط (Médiane)
وهو الخطّ الذي يبدأ من نقطة تلاقي الحدود البرّيّة مع البحر ويسير باتّجاه أعالي البحار بحيث تكون كافّة نقاطه على مسافة متساوية من نقطتي تعليم (repères) متناظرتين على كل من ساحلي الدولتين.
إلاّ أنّ اعتماد هذا الخطّ قد يصطدم باستثناءات ثلاثة:
أن تكون هناك اتّفاقات خاصّة ببعض مناطق البحر.
أن تكون هناك حقوق تاريخيّة لأيّ من الدولتين على مناطق معيّنة (مصائد أو غيرها)
أن يكون الواقع الجغرافيّ للشواطئ ممّا يصعب معه تصوّر هذا الخطّ.
ب ـ المعايير المتعدّدة
عندما يكون شكل الشواطئ معقّداً، تؤخذ بعين الاعتبار معطيات عديدة، بهدف أن تؤدّي إلى حلّ عادل. وهذا ما كرّسته محكمة العدل الدوليّة في عدد من أحكامها لا سيّما الأخيرة منها، كما في قراراتها بشأن تعيين الحدود البحريّة في خليج مين (Maine) بين الولايات المتّحدة وكندا بتاريخ 20 كانون الثاني/ يناير 1982، وبين الكاميرون ونيجيريا بتاريخ 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2002، وبين الهندوراس ونيكاراغوا بتاريخ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2007، وفي البحر الأسود بين رومانيا وأوكرانيا بتاريخ 3 شباط 2009، وبين الصومال وكينيا في المحيط الهندي، 12 أكتوبر 2021.
أمّا إذا كان هناك جزر فالمسألة تحتاج إلى تفصيل.
الجُزُر
تعرّف المادّة 121 من قانون البحار الجزيرة بأنّها «رقعة من الأرض متكوّنة طبيعيّاً ومحاطة بالماء وتعلو عليه في حالة المدّ» (ناهيك بحالة الجزر).
وهكذا فهي تختلف عن تكوينين طبيعيّين، وهما:
– النتوءات التي تغمرها المياه في حالة المدّ وتنحسر عنها في حالة الجزر(م13). des hauts-fonds))
– الصخور الصغيرة التي لا حياة فيها.
فالجزيرة تمتلك بحراً إقليميّاً ومنطقة متاخمة ومنطقة اقتصاديّة خالصة وجرفاً قارّيّاً، تحدّد كما مثيلاتها الخاصّة بالبرّ. أما إذا كانت صغيرة الحجم وتطابق بعض بحرها الإقليميّ مع دولة أكبر فيمكن أن يعطى بحرها الإقليميّ مفعولاً جزئياً Effet partiel .
أمّا النتوءات المذكورة فيعتدّ بها لتحديد خطّ الأساس لقياس البحر الإقليميّ لبرّ أو لجزيرة في حال كانت كلّياً أو جزئيّاً ضمنه، أمّا إذا كانت خارجه فلا بحر إقليميّاً لها. وبالطبع لا منطقة متاخمة ولا جرف قارّياً.
وأمّا الصخور فإنّ الشروط القانونيّة التي تسمح بوصفها كذلك بالمعنى المقصود في القانون الدوليّ، تقضي بأن تقوّم بشكل موضوعيّ، فإذا كان عنصر بحريّ ما لا يتمتّع بإمكانيّة موضوعيّة لاستقبال نشاط اقتصاديّ أو سكن بشريّ، لا يمكن أن يكون له منطقة اقتصاديّة خالصة أو جرف قاريّ (م121/3).
لكن ما المقصود بالسكن البشريّ وبالحياة الاقتصاديّة؟ هاتان المسألتان يجب أن تدرسا بالمعنى الكيفيّ والزمنيّ. فـ «السكن البشريّ»، كما يرى روبرت كولب: «يجب أن يسمح بنفسه بالإقامة الدائمة لمجموعات بشريّة منظّمة، وبالتالي تكون ذات أهمية ما». وترى محكمة التحكيم الدوليّ أنّه» يجب أن يناسب (السكن) مجموعة من الأشخاص ويلبّي حاجاتها الخاصّة لمدّة غير محدّدة. أمّا «النشاط الاقتصاديّ الخاصّ» فيعني القدرة بالنسبة لسكّان العنصر البحريّ أن يقوموا بنشاط اقتصاديّ مستقلّ، بمعنى ألاّ يكونوا معتمدين كليّاً على الخارج». كما أنّ النشاط يجب ألاّ يقوم فقط على نشاطات استخراجيّة، ولا يعتدّ بمشاريع تقام عن سوء نيّة… بهدف وحيد يتمثل بتحويلها أو اتّخاذ أيّ تدبير مصطنع بمناسبة وجودها بنيّة حرف نتائج الفقرة الثالثة من المادّة 121. فلا تغيّر في الأمر شيئاً أن يحاول العدوّ أن يظهرها على غير حقيقتها بإقامة منشأة ما عليها.
هذا، وكما استنتج المحكّمون في ما خصّ النزاع بين الصين والفيليبين حول جزر سبراتلي، فإنّ الجزر التي لا تقوم فيها حياة بشريّة أو نشاط اقتصاديّ لا تتمتّع بمنطقة اقتصاديّة خالصة ولا بجرف قاريّ.
وفي قضيّة الصومال ضدّ كينيا (2021)، رأت المحكمة أنّه من المناسب، لأغراض بناء خطّ الوسط، الاحتفاظ فقط بالنقاط الأساسيّة الواقعة على البرّ الرئيسيّ للسواحل القاريّة للطرفين. وهي لا ترى أنّه من المناسب الاحتفاظ بالنقاط الأساسيّة الموجودة على الجزر الصغيرة القاحلة في ديوا داماسياكا، لأنّ هذا، نظراً لحجم هذه التكوينات، سيكون له تأثير غير متناسب على تحديد خطّ الوسط». خريطة رقم 1)
في الحدود البحريّة
بين لبنان وفلسطين المحتلّة
فإذا حاولنا تعيين الحدود البحريّة بين لبنان وفلسطين المحتلّة، فما هو الحلّ؟
لا بدّ أوّلاً من الرجوع إلى قانون البحار (اتّفاقيّة جنيف 1958، واتّفاقيّة 1982)، وقد صادق لبنان في الخامس من كانون الثاني سنة 1995 على اتّفاقيّة 1982، ووضعت موضع التنفيذ في 29 تمّوز سنة 1994، ولكنّ العدوّ لم يصادق عليها، ومع ذلك فهي تلزمه في بعض أحكامها التي أصبحت عرفيّة خاصّة في مسألة تعيين الحدود. لكن لا بدّ من العودة إلى مصادر حقوقيّة أخرى تفصيليّة وعمليّة.
الرسم 1
في اعتماد الطريق التفاوضيّ، ليس الأمر وارداً ولا الحلّ القضائي ولا التحكيمي واردان، لأنّ هذه الحلول تجري بين دول، في حين أنّ لبنان لا يعترف بالكيان الصهيونيّ على أنّه دولة. لذلك يبقى الحلّ المعتمد اليوم، التفاوض غير المباشر، هو الممكن. هذا في الشكل.
أما من حيث الأساس، ومهما تعدّدت العوامل المؤثرة في تحديد الحدود، يبقى العامل الفيزيائي هو الحاكم. فقد ورد في قرار تعيين حدود الجرف القارّي بين ليبيا وتونس، أنّه تبقى الأولويّة للاعتبار الجغرافيّ: «في كلّ تقويم للمنهجيات واجبة الاتّباع، كتقويم القواعد والمبادئ الصالحة للتطبيق، من المهمّ أن ننطلق من الوضع الجغرافيّ كما يظهر، وخاصّة من امتداد المنطقة المعنيّة وخصائصها».
وفي قضيّة تعيين الحدود بين الهندوراس ونيكاراغوا (8 تشرين أكتوبر سنة 2007)، ينصّ القرار على أنّ المعايير، التي يجب أن تؤخذ بالحسبان أثناء المفاوضات، يمكن أن تشمل الصورة العامّة لشواطئ الأطراف ووجود أيّ ميزة خاصّة أو غير عاديّة، وبقدر ما يكون الأمر معروفاً وسهل التحديد، تؤخذ البنية الفيزيائيّة والجيولوجيّة والموارد الطبيعيّة… كما يؤخذ التناسب المعقول الذي يمكن أن يظهر ما بين امتداد مناطق الجرف القارّيّ العائدة لكلّ دولة وطول ساحلها المقيس حسب الاتّجاه العامّ لهذا الساحل، وما يمكن أن ينتج عن تحديد قائم طبقاً لمبادئ عادلة، على أن تؤخذ أيضاً بالحسبان النتائج الآنيّة والمحتملة لأيّ تحديد آخر للجرف القارّيّ في المنطقة نفسها. أمّا إذا خلا الواقع من الاعتبارات التي يراعيها القرار، فيمكن الاعتماد على الجغرافيا مع بعض التصحيح حين تكون نتائج التعيين في بعض الحالات غير معقولة.
ففي قضيّة تعيين الحدود بين الولايات المتّحدة وكندا على خليج مين Maine اعتمدت المحكمة على معايير متعدّدة وركزت على الجغرافيا مع بعض التصحيح، لمّا رأت أن بعض النتائج غير معقولة، فقد جاء في القرار: «إنّ الأفضليّة التي لا بدّ منها هي للمعايير التي تستجيب بشكل أفضل، بطبيعتها المحايدة، لتحديد متعدّد الأغراض (Polyvalent)، فعلى المحكمة أن تتّجه في الدعوى الحاضرة إلى معايير ترتبط بالجغرافيا.. غير أنّه من الواجب إجراء تصحيحات لبعض النتائج التي يمكن أن يكون تطبيقها غير معقول».
وإذا كانت الجغرافيا هي الأساس في عمليّة التحديد، فهذا يفرض علينا أن نتفحّص ذلك في مسألتنا الحاضرة،
في الجغرافيا يبقى ممّا يمكن اعتماده في موضوع الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة إمكانيّتان: خطّ الوسط (Médiane)، أو حلّ المعايير المتعدّدة.
لاحظنا أنّ الحلّ المؤدّي إلى نتيجة عادلة حسب اتّفاقيّة قانون البحار لسنة 1982، والذي طبّقه اجتهاد محكمة العدل الدوليّة، كان يأخذ بالحسبان معطيات جغرافيّة تتعلّق بشكل السواحل في كلّ بلد، هل هي شبه مستقيمة أم هي مكوّنة من مقاطع (Segments) متمايزة، وهل هناك من مناطق نتوءات صخريّة des) hauts-fonds) في البحر؟ وهل هناك انعطافات حادّة في شاطئ أيّ دولة باتّجاه شاطئ الدولة الأخرى؟ وهل من حقوق تاريخيّة؟ وهل من اتّفاقيّات؟
إنّ كلّ هذا غير وارد في المسألة التي نحن بصددها (مع التحفّظ لجهة صخرة تخليت، كما سنرى)، يبقى اعتماد خطّ الوسط.
إنّ خط الوسط (Médiane) بين لبنان وفلسطين يبدأ من نقطة الحدود عند الناقورة ويتّخذ اتجاهاً بحيث تكون كلّ نقاطه متساوية المسافة (équidistants) عن نقطتي علام (Repères) متناظرتين Symétriques تعيّنان على ساحل كلّ من الدولتين.
إلاّ أنّ العدوّ يطرح ثلاثة أمور: الاتّفاقيّة مع قبرص، تعيين نقطة بداية الخطّ الوسط، «جزيرة» تخليت.
أ ـ بالنسبة إلى الاتّفاقيّة مع قبرص، والتي لم يبرمها لبنان، كما سنرى، لا يمكن العدوّ التذرعّ بها لأسباب منها:
1 ـ هي اتّفاقيّة بين دولتين ولا شأن لطرف ثالث بها.
2 ـ اعتبرت الاتّفاقيّة أن نقطة النهاية الجنوبيّة لخطّ الترسيم (النقطة1) غير نهائيّة، ويمكن مراجعتها بناءً على معطيات خريطيّة أكثر دقّة.
3 ـ أنّ الخط الرابط بين رأس الناقورة والنقطة 1 ليس الخط الوسط المتعارف عليه.
وقد اقترح الوسيط الأميركي هوف اعتماد خطّ جديد يمتدّ من رأس الناقورة إلى نقطة تقع بين النقطة 1 والنقطة 23، ما يعيد إلى لبنان مساحة 500 كلم2 للبنان من أصل 836 كلم2 مقابل 360 كلم2 للعدوّ، لكن الاقتراح رفض.
ب ـ بالنسبة لنقطة بداية الخطّ الوسط، كان العدوّ قد أزاح هذه النقطة عشرين متراً إلى الشمال داخل لبنان وأقام منشأة أسماها Rock Hanicra، ليمنع الجانب اللبنانيّ من الوصول إلى الموقع الأصليّ لنقطة الحدود B1 التي يصبح الشاطئ الفلسطينيّ، انطلاقاً منها مكشوفاً حتّى حيفا.
وبمناسبة طرح العودة إلى المفاوضات بخصوص الترسيم «تذكّرَ» لبنان قصّة إزاحة النقطة B1، وراح يطالب بالرجوع إلى الموقع الأصليّ للنقطة المذكورة B1، ما يعيد إليه مساحة حوالي 2000 كلم2 بدلاً من 836 كلم2.
ج ـ وأمّا ما يسمّيه «جزيرة» تخليت، فلا بدّ من تفنيد ادعاءاته بشأنه.
صخرة تخليت
تخليت هي عنصر بحريّ يبعد 1000 متر عن الشاطئ الفلسطينيّ و1800 متر عن نقطة الحدود اللبنانيّة ـ الفلسطينيّة.
يدّعي الصهاينة أنّ تخليت جزيرة ولها مركز الجزيرة القانونيّ، بمعنى أنّ لها مياهاً إقليميّة ومنطقة متاخمة ومنطقة اقتصاديّة خالصة… إلاّ أنّنا في ضوء القانون الدوليّ نرى أنّها أساساً صخرة، مهما كان حجمها، كما يغمرها الماء في حالة المدّ.
ومن جهة ثانية، وإذا تغاضينا عن كون الماء يغمرها في حالة المدّ، فإنّ هذه الصخرة ليست مأهولة ولا حياة اقتصاديّة ولا غير اقتصاديّة فيها، إذ أنها صخرة صمّاء بطول بضعة عشر متراً وعرض بضعة أمتار، وفي هذه الحالة لا يمنحها قانون البحار مركز جزيرة بمعنى الكلمة، فقد رأينا أنّ المادّة 121/3 من القانون تنصّ على أنّه «ليس للصخور التي لا تؤمّن استمرار السكنى البشريّة أو استمرار حياة اقتصاديّة خاصّة بها، منطقة اقتصاديّة خالصة أو جرف قاريّ».
من هنا فإنّ صخرة تخليت لا تؤخذ قانونيّاً بالحسبان في رسم حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة الخاصّة بلبنان.
ولا بدّ هنا من التذكير بأنّ الاتّفاقيّة بين لبنان وقبرص وضعت النقاط بين المنطقتين الاقتصاديّتين الخالصتين اللبنانيّة والقبرصيّة من الجنوب إلى الشمال من 1 جنوباً إلى 6 شمالاً، على أن تكون هاتان النقطتان قابلتين للتعديل على ضوء ترسيم الحدود بين لبنان وفاسطين المحتلّة، من جهة، وبين لبنان وسورية، من جهة أخرى. ونصّت الاتّفاقيّة، بناءً على ذلك، في مادّتها الثالثة على أنّه» إذا دخل أيّ من الطرفين في مفاوضات تهدف إلى تحديد المنطقة الاقتصاديّة الخالصة مع دولة أخرى، يتعيّن على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتشاور معه قبل التوصّل إلى اتّفاق نهائيّ مع الدولة الأخرى، إذا ما تعلّق التحديد بإحداثيّات النقطتين 1 و6».
إلاّ أنّه في 17/12/2010، اتّفقت قبرص مع «إسرائيل» على تعيين الحدود البحريّة بينهما، متجاهلة المادّة الثالثة من الاتّفاقيّة المعقودة مع لبنان والتي تلزمها بالتشاور معه. وفي 12/7/2011 أودعت «إسرائيل» إحداثيّات منطقتها الاقتصاديّة الخالصة الأمم المتّحدة. ورسمت الحدود البحريّة مع لبنان على أساس خطّ من الناقورة إلى النقطة رقم 1. لكنّ لبنان رفض هذا التحديد واحتجّ لدى الأمم المتّحدة، وانتهى الأمر بأن اعتمدت الحكومة اللبنانية توصية مكتب الهيدروغرافيا في بريطانيا (UKHO). معتمدة الخط المنطلق من نقطة الحدود الحقيقيّة في رأس الناقورة حتى النقطة 29 نهاية المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصّة بلبنان (أنظر الرسم رقم 2)، وفي الخامس من شباط 2022، أرسل رئيس الجمهورية رسالة إلى الأمم المتحدة تحدّد حدود لبنان البحريّة، على أن تنشر على موقع الأمم المتّحدة.