حدود لبنان الجنوبية بين لويد جورج وكليمنصو
القنصل خالد الداعوق
إضافة إلى الأزمات والمشاكل الكبيرة النازلة فوق رؤوسهم، ينشغل اللبنانيون كثيراً هذه الأيام بقضية ترسيم الحدود البحرية جنوباً مع الكيان “الإسرائيلي”.
وكالعادة إزاء أيّ موضوع يُطرح في الأوساط السياسية والإعلامية يصبح اللبنانيون جميعاً خبراء فيه يناقشون تفاصيله ويكشفون خباياه، كما يحصل اليوم مثلاً حيال التطورات بين روسيا وأوكرانيا، وكما حصل سابقاً في قضايا ومسائل كثيرة وعديدة…
في هذا السياق هناك قصة لافتة جداً حدثت خلال مفاوضات فرساي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918، وقد استمرّت تلك المفاوضات في مدينة فرساي الفرنسية حتى العام 1919، حيث حاول رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج ومن ورائه الحركة الصهيونية المتمثلة يومها بـ حاييم وايزمان أن تكون الحدود الشمالية لفلسطين (والتي كانت ستخضع للانتداب البريطاني) أن تكون عند نهر الليطاني في جنوب لبنان، وبرّر البريطانيون مطالبتهم تلك بأنّ حدود الأنهر هي حدود طبيعية.
لذلك كانوا يحاولون تسويق هذه القضية في مباحثات فرساي، وخاصة لدى الفرنسيين الذين كان لبنان من حصتهم (وأصبح لاحقاً تحت انتدابهم بموجب قرار من عصبة الأمم). ولذلك أراد الفرنسيون أن تكون الحدود الشمالية لفلسطين عند بلدة الناقورة، واحتدم النقاش حول هذه النقطة بين لويد جورج من جهة وجورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا من جهة أخرى…
وبعدما رأى أنّ كليمنصو لن يحيد عن موقفه، وافق لويد جورج على المطلب الفرنسي، بأن تكون الناقورة هي نقطة الحدود بين لبنان وفلسطين، وأبلغ هذا الأمر إلى ممثل الحركة الصهيونية حاييم وايزمن، وقال له انّ الفرنسيين مُصرّون على أن تكون الحدود الشمالية عند الناقورة، إلى درجة أنهم مستعدون للدفاع عن هذه النقطة حتى لو كلفهم الأمر حرباً عسكرية، وتابع لويد جورج “انّ المملكة المتحدة لا تريد حرباً مع الفرنسيين من أجل أمر تفصيلي”.
وفي ختام حديثه قال لويد جورج لوايزمن عبارته المشهورة “لربما بعد خمسين سنة من الآن يمكن أن تأخذ ما تريد أن تأخذه اليوم”.
مقولة لويد جورج تحققت بعد ستين عاماً حين نفذت “إسرائيل” اجتياحها للبنان عام 1978 وأطلقت عليه اسم “عملية الليطاني”، وصدر على اثر ذلك الاجتياح القرار 425 عن مجلس الأمن الدولي وقضى بانسحاب جيش العدو إلى نقطة الحدود التي كان فيها قبل الاجتياح، أيّ إلى الحدود التي تمّ رسمها في مؤتمر فرساي بين سلطتي الانتداب البريطانية على فلسطين والفرنسية على لبنان.
إلا أنّ “إسرائيل” كالعادة لم تمتثل للقرار الدولي، بل أكثر من ذلك تمادت في التعدّي على لبنان ونفذت عام 1982 اجتياحاً أكبر وأوسع حيث احتلت عاصمتنا بيروت وكلّ الجنوب وأجزاء كبيرة من جبل لبنان والبقاع.
لكن اللبنانيين انتفضوا على ذلك الواقع واستبسلوا ونفذوا عمليات مقاومة نوعية وهامة جداً أجبرت العدو على الانسحاب تباعاً من كلّ الأراضي اللبنانية المحتلة، ولم يكن أمام هذا العدو أيّ مفرّ من العودة إلى الحدود إياها التي رسمها مؤتمر فرساي عند الناقورة، باستثناء بعض النقاط التي تحفظ عليها لبنان وسجل اعتراضه لدى الأمم المتحدة التي قامت قواتها برسم الخط الأزرق الذي يحدّد بدقة النقاط التي لا يزال العدو يخرقها ولم ينسحب منها عام 2000.
اليوم تدور مفاوضات غير مباشرة مع “الإسرائيليين” في الناقورة برعاية الأمم المتحدة وبوساطة الولايات المتحدة لترسيم الحدود البحرية، وبالتالي لاستثمار حقول النفط والغاز على جانبي الحدود. وقد وصلت الأمور إلى مرحلة حساسة ولكن متقدّمة بالنسبة إلى لبنان، إذ أصبح التفاوض بين النقطتين 23 و 29، في حين يذكر الجميع أنّ الوفد اللبناني عام 2007 وقع اتفاقاً مع قبرص انطلاقاً من النقطة 1، الأمر الذي كان سيُلحق بلبنان خسائر فادحة جداً من خلال إهدار جزء كبير من حقوقه في المياه والنفط والغاز.
وقد تمّ لاحقاً تصحيح تلك الخطيئة المميتة، حيث لم يتمّ إقرار الاتفاق في مجلس الوزراء ولا في مجلس النواب ولا وقّع عليه رئيس الجمهورية، وتمّت مراسلة الأمم المتحدة لتثبيت حق لبنان بموجب المرسوم 6433 بتاريخ 1/10/2011، وهو المرسوم الذي حدّد حدود المنطقة الاقتصادية للبنان مع سورية وقبرص و”إسرائيل”…
وبغضّ النظر عن كلّ السجالات القائمة اليوم من هنا وهناك، والتي يتداخل فيها السياسي مع الاقتصادي مع الانتخابي، فضلاً عن المناكفات الشخصية بين هذا وذاك من السياسيين… فإنّ الثابت بالنسبة لنا هو أنّ لبنان يجب أن يحصل على حقوقه كاملة، ويجب أن يكون الترسيم البحري مقدمة لبدء مرحلة جديدة تنقل لبنان من حالة الحاجة والعوَز التي وصل إليها هذه الأيام، إلى حالة أخرى مختلفة تماماً حيث الراحة والبحبوحة والازدهار، وهذا طبعاً ليس حلماً إنما هو أمر يصبح واقعاً إذا قرّر اللبنانيون ذلك وعملوا في سبيله ومن أجله…