سقوط سياسة الحياد والنأي بالنفس القائمة على مقياس «ريختر» بعض المصالح
} علي بدر الدين
أثبت بعض السياسيين في لبنان، بمختلف مكوناتهم، بأصولهم وفروعهم، بقديمهم وجديدهم، أنهم منظومة ولاّدة للأزمات والمشكلات والصراعات، لا تهدأ ولا تستكين ولا «تنام على ضيم»، تبحث بنفسها عن الشرّ و»بتغنيلو»، وتصطنع أخصاماً لها مفترضين وحقيقيين، ليس من أجل مصلحة البلد والشعب، بل خدمة لمصالحها وتحاصصها واستمرار سيطرتها ونفوذها على كلّ شاردة وواردة، وإذا لم تعثر على خصم داخلي أو خارجي تلجأ إلى افتعال الخلافات الوهمية بين بعضها وتتخذ مواقف عشوائية وغير مبرّرة، وتنبش ملفات خلافية غارت في الزمن وعفّنت في الأدراج و»أكل عليها الدهر وشرب» وانتهى مفعولها، المهمّ أن يبقى جمرها تحت الرماد وغبّ الطلب «تنعفه» وتحركه متى تشاء وفي اللحظة المناسبة، «لتكوي» الشعب وتحرقه بناره حتى لا تقوم له قائمة، ويظلّ يصرخ ليس في وجهها، بل من الوجع والفقر والجوع والبطالة والذلّ والحرمان والإهمال، ما دام على «قيد الحياة»، وتبقى هي متسلّطة ومتسيّدة وممسكة أبدية بناصية السلطة والمال، وبمقدرات الدولة ومؤسساتها، وأجهزتها وسلطاتها وإداراتها ومصالحها، حتى آخر أعمارها التي طال ليلها كثيراً، وطال معها ظلمها وطغيانها وفسادها وتحاصصها وصراعاتها، التي لا يبدو أنّ بزوغ فجره قد شقشق وحان انبلاج ضوئه والخلاص، كأنها تخطط لتجاوز الحدّ المسموح به، بهدف الوصول إلى دخولها كتاب «غينتس» للأرقام القياسية، قد يمتدّ حكمها إلى ما يقارب خمسة عقود لانعدام وجود مؤشرات ومعطيات توحي بعكس ذلك، خاصة أنّ حبلها على الجرار ما زال شغالاً.
هذه المنظومة وما أفرزته من عهود وحكومات وسلطات ونواب ووزراء وموظفين كبار، وما استحدثته من أنظمة وقوانين ومجالس وصناديق ولجان وجمعيات فعلية ووهمية، قوّضت من خلالها الدستور اللبناني وتشريعاته، ووظفتها كلها لخدمة مصالحها وحماية ثرواتها ومواقعها، ودفّعت اللبنانيين أثمانها الباهظة وتركتهم صيداً سهلاً للفقر والجوع والمرض، وعرّضت اقتصاد لبنان وماليته للانهيار والإفلاس وتراكم الديون الداخلية والخارجية، ولاستجداء القروض والمساعدات والشحادة إلى إسقاط هيبة لبنان وإفقاده قراره «المستقل» وسيادته واستقلاله، وتحويل شعبه إلى مهاجر أو مهجّر أو مشرّد أو متسوّل، وهي تحوّلت إلى تاجرة فاجرة، تبيع وتشتري المواقف والمصالح في أسواق عكاظ الدولية، لاعتقادها بأنها ستؤمّن لها الحماية وتقيها من العقوبات، أو من المتغيّرات والتطورات التي ترسم خرائط العالم من جديد، على أمل واهم، بأن تجد لها موقعاً تابعاً هنا أو مرتهناً هناك، مهما كان وضيعاً وتافهاً.
الأنكى من ذلك أنّ هذه المنظومة تدّعي أنها تنتهج سياسة الحياد والنأي بالنفس، مع أنها لا تترك فرصة أو حدثاً أو أزمة إقليمية أو دولية، إلا و»تحشر أنفها» فيها، فتقع في خطأ «بريء وعفوي» تارة، ومقصود تارة أخرى، وعن سابق إصرار وتصميم، لأنها تقيس الحياد والنأي بالنفس على مقياس «ريختر» مصالحها وتوجهاتها، من دون أيّ اعتبار لمصلحة لبنان، وتوقع به في مطبّ تلو الآخر، لأنها غير مسؤولة وغير ناضجة وغير متمرّسة بإدارة الحكم وشؤون البلاد والعباد ولا يهمّها سوى مقاربة مصالحها، وآخر «إنجازاتها الحيادية»، موقف وزير الخارجية والمغتربين الدكتور عبدالله أبو حبيب حول الحرب الروسية الأوكرانية، الذي بدل أن يكحّل مصلحة لبنان أعماها، والأسوأ أنّ البعض ممن علم به ووافق عليه، تنصّل منه وأبعد كأس ردود الفعل والتداعيات عنه، وكأنّ بعض هؤلاء الذين على ما يظهر من سلوكياتهم وممارساتهم السياسية والسلطوية أنهم لا يصلحون حتى لإدارة «دكانة سمانة»، فكيف بإمكانهم أن يديروا بلداً ودولة وشعباً ومؤسسات. وحده «البطل» وزير الخارجية الذي تصدّى بصدره «المدرّع» للمواقف المنتقدة لبيانه، نيابة عن المتنصّلين الذين أرادوا حفظ «ماء الوجه»، وأعلن تحمّل مسؤولية ما صدر عنه بإسم وزارة الخارجية، يعني بإسم الحكومة والدولة واعتباره موقفاً رسمياً، وكأنّ لبنان مزرعة سائبة وليس دولة مستقلة لها قرارها الموحد.
إنّ اللبنانيين «يعيشون» في ظلّ منظومة سياسية تفعل دائماً عكس ما تقول، وتتدخل في ما يعنيها وما لا يعنيها في الداخل والخارج، رغم أنها أثبتت عقمها وفشلها وعجزها عن إدارة أو معالجة أيّ ملف اقتصادي أو مالي او اجتماعي أو معيشي أو خدماتي، أو أنها لا ترغب بذلك ولا تريده، لأنها تبحث عن الأثمان والأرباح والمقايضات والمساومات والتسويات، وهذا ما بدا واضحاً في عدم إقرار الموازنة المتعثرة القاسية والظالمة للشعب، والتخطيط لترحيلها على ما يبدو إلى ما بعد الاستحقاق الانتخابي النيابي، وهناك خطة الكهرباء التي أقرّت «مبدئياً» لأنّ إقرارها النهائي مرتبط بالتمويل المفقود، وبشروط ومصالح، وهناك مشروع قانون استقلالية القضاء الممدّد له، مع أنه يجب أن يكون مستقلاً ونزيهاً، ولا حاجة لمثل هذه «الخزعبلات».
ومن حق الناس أن تسأل عن التدقيق الجنائي، ومن أين لك هذا، وعن الإثراء غير المشروع؟ وأين أصبحت الضجة حول الادّعاءات على هذا أو ذاك، لماذا تمّ تجميدها وطمسها، أليس بفعل الخطوط الحمر السياسية والطائفية والمذهبية التي تصدّت لها؟
كفى لهذه المنظومة الموغلة بالفساد والنهب والتحاصص استغلال الناس وتوظيف حقوقها المشروعة في التعبئة والشعبوية والمصالح الضيقة، وتفاقمها مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، وكفى هذا الشعب المسكين سذاجة وتخدّراً ونوماً عميقاً وسكوتاً مبالغاً فيه على الفقر والجوع والبطالة والظلم، لأنّ سكوته غير المبرّر يعني أنه يجلب المزيد من الدببة إلى داره… والنتيجة ستكون حتماً كارثية.