الحرب الأوكرانية نحو عالم متعدّد الأقطاب ونظام عالمي جديد
} خضر رسلان
التاسع من شهر تشرين الثاني من العام 1989 كان موعداً مع التاريخ الذي أسّس لانهيار الاتحاد السوفياتي إثر سقوط جدار برلين والذي سقط معه القطب الثاني الى جانب الولايات المتّحدة في النظام الدولي القائم على الثنائية القطبية، حيث تقلّصت رقعة الدولة العظمى الاتحاد السوفياتي (الشيوعية) وتحوّلت الى روسيا الاتحاديّة (الليبرالية) الدولة الضعيفة سياسياً والمنهارة اقتصادياً.
1 ـ روسيا ما قبل بوتين
عملت أميركا على احتواء روسيا بعد فقدها لقوّتها السياسيّة ونفوذها الإقليمي والدولي وقد اتّخذت العديد من الإجراءات لتحقيق أهدافها ومنها توسيع حلف الناتو نحو أوروبا الشرقية، وعملت على خلق رأي عام يروّج لفكرة انّ روسيا هي كالاتحاد السوفياتي تمثّل تهديداً لهذه الدول، جاعلة من هذه الفوبيا ذريعة لتوسّع حلف الناتو شرقاً ومن ثم تحويله الى أداة في يد الولايات المتحدة في استعراض هيمنتها وتدخلها السافر في الشؤون الداخلية لدول تقع خارج المنطقة الدفاعية للناتو.
وقامت أميركا حتى بالتدخل في شؤون روسيا الداخلية وبشكل سافر، وإمعاناً في استضعافها قامت الولايات المتحدة وبشكل أحادي بتمزيق معاهدة الصواريخ الباليستية التي وقّعتها مع روسيا عام 1972، وأعقبت ذلك وإيغالاً في العمل على إضعاف القدرات العسكرية الروسية بإجراء التجارب والأبحاث وبهدف تطوير ونشر تكنولوجيا الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية وبوتيرة سريعة ونافرة.
2 ـ روسيا مع بوتين
اختلف الوضع في عهد بوتين إثر مجيئه إلى الحكم في عام 2000 وظهر ذلك بشكل خاص من خلال سياسته الهادفة إلى تحديث الجيش وتعزيز مهاراته، أما في السياسة الخارجيّة فقد أبرم توقيعه لعقيدة الأمن الوطني لروسيا ثمّ الوثيقة اللاحقة التي أقرّها في العام نفسه والمتعلقة بالعقيدة الخارجيّة الروسيّة.
ثم وقع عدداً من الاتفاقيات مع الجانب الأميركي تناولت تخفيض الأسلحة الاستراتيجية والترسانات النووية، وتوّج هذا التعاون في نهاية المطاف بالتحالف الدولي ضدّ الإرهاب إبّان أحداث 11 أيلول، حيث وقفت روسيا جنباً إلى جنب مع أميركا وقدّمت جميع المساعدات اللازمة لها في إطار مكافحة الإرهاب والقضاء على نظام طالبان في أفغانستان. ورغم هذا التعاون استمرّت اميركا في العمل على تحقيق الهيمنة الكاملة على العالم كله، وعدم التساهل مع أيّ قوة تحاول اعتراض طريقها. بينما في المقلب الآخر انتهج فلاديمير بوتين سياسة روسيّة خارجيّة واضحة المعالم تقوم على تفعيل دورها على الصعيد الإقليمي والدولي بحيث لا تخضع لأي هيمنة أو إبتزاز، وتدعو إلى عالم متعدّد الأقطاب ويرفض سيطرة الولايات المتّحدة المنفردة على النظام العالمي.
3 ـ التجاذب الأميركي – الروسي
في الوقت الذي يتجه الروسي الى إقامة تحالفات على أساس عالم متعدّد الأقطاب، وكسر الأحادية القطبية تدعو جهات في الإدارة الأميركية الى الإطباق الكامل ونزع مكامن القوة الروسية، وقد استندوا في ذلك إلى أنّها تشكّل خطراً على الهيمنة الأميركية على العالم، خصوصاً أنّها تمتلك قوّة عسكرية غير تقليديّة ونووية تخوّلها تنفيذ سياساتها، ولذلك يجب تحجيمها وعدم السماح لها بالعودة لاستعادة مجد الاتّحاد السوفياتي، وذلك من خلال انتزاع مناطق نفوذها الحاليّة وابتزازها في محيطها قدر الإمكان. فكان نتيجة لذلك أن ظهرت المشكلة الأوكرانيّة التي كانت بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير.
في أدبيات مراكز الدراسات الأميركية استنتاج يقول ان «تشكّل روسيا مع أوكرانيا الإمبراطورية الروسية وأنّ الفيصل الأول لإزالة الارضية الصلبة التي يمكن ان تسنهض روسيا هو دكّ الاسافين بينها وبين أوكرانيا».
وإزاء مراقبة روسيا لمحاولات الغرب السيطرة على بلدان مثل مولدافيا وجورجيا وأوكرانيا، اعتبرت أنّ الغرب يريد محاصرتها من جديد وهو ما لن تسمح به، واتّهم الرئيس الروسي بوتين الغرب «بمحاولات خطيرة يُراد من خلالها طمس حقائق الحضارة المتعددة الأوجه الى حضارة أحادية وفقاً لمبادئ عالم أحادي القطب، منتقداً في الوقت نفسه الديكتاتورية الأميركية وبشكل مباشر مستعيداً بذلك أدبيات الحرب الباردة وعاكساً انطباعاً قوياً يوحي بجهوزية روسيا لتفعيل ما تربو اليه من فرض «عالم متعدّد الأقطاب» في مواجهة الهيمنة الأميركية.
قراءة في الأزمة الأوكرانيّة وتداعياتها
في إطار الرفض الروسي لانضمام أوكرانيا الى حلف الناتو وعدم إعطاء الولايات المتحدة الفرصة في الاستفادة من الموقع الجغرافي التي تتميّز به، كان الموقف الحاسم من قبل بوتين باتخاذ الإجراءات الوقائية لحماية الأمن القومي للاتحاد الروسي بدءاً من ضمّ جزيرة القرم الى الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك اللتين تضمّان أغلبية روسية، والتعهّد بتأمين الحماية اللازمة لهما إذا ما تعرّضتا لأيّ تهديد من قبل النظام الأوكراني الذي تتهمه بالارتباط الأمني والسياسي مع الغرب والذي يعمل على تأجيج المشاعر القومية المناهضة للروس والكنيسة الأرثوذكسية فضلاً عن سعيها الحثيث لصناعة أسلحة الدمار الشامل وأسلحة نووية تشكل تهديداً مباشراً لروسيا، وبالتالي كانت الخلاصة الاستراتيجية التي استنجتها القيادة الروسية انّ السلوك الأميركي عبر الأداة الأوكرانية يمثل خطراً وجودياً للأمن الروسي وبالتالي كان القرار الحاسم بالمواجهة حتى تحقيق الأهداف وبحدّها الأدنى الحياد لعدد من الدول ومن ضمنها أوكرانيا.
في الختام وفي قراءة للواقع واستشرافاً للمستقبل فإنّ المواجهة الراهنة بين روسيا والمعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية يُعتبر تحدياً وثقة بالنفس لدى الروس الذين ضاقوا ذرعاً من سياسة الاستضعاف الأميركية التي ترفع سلاح العقوبات على الدولة الروسية من حين إلى آخر، وبالتالي فإنّ هذا الموقف معطوفاً على موقعية المارد الصيني كقوة صاعدة الى بروز الأدوار المهمة للدول الإقليمية المناوئة للولايات المتحدة كحال الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تقود محوراً مقاوماً في منطقة الشرق الأوسط سينعكس بلا شك على السيناريوات المطروحة والتي سترسم معادلات جديدة تؤكد على تراجع هيمنة القطب الأحادي الأميركي الى عالم تسوده أقطاب متعددة…