ملاحظات على هامش الأزمة الروسيّة ـ الأوكرانيّة
سعادة مصطفى أرشيد*
لم تضع الحرب الروسية ـ الأوكرانية أوزارها بعد أو العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا حسب النص الرسمي الروسي، وقد تحتاج لوقت يطول وجولات من القتال في الميدان والجدال في الأروقة والمحافل الدبلوماسية، لكن خط نهاية هذه الأزمة ـ الحرب ربما يكون قد أصبح معروفاً ما لم تحصل مفاجآت من خارج صندوق الاحتمالات المتداولة .
رأت موسكو في العقدة الأوكرانية أنها مسالة أمن قومي روسي من الدرجة الأولى، لذلك فإنّ المطلوب من أوكرانيا ليس أمراً للنقاش أو البيع أو المقايضة، فيما ظنت أوكرانيا أنّ عالماً مترامي الأطراف يقف خلفها ومستعدّاً للقتال عنها ـ أو إلى جانبها، وعلى رأس هذا العالم الولايات المتحدة و(إسرائيل) وحلف شمال الأطلسي بما فيه العضو الشرقي الإسلامي الوحيد ـ تركيا، ذات القوة العسكرية والموقع الاستراتيجي المهمّ لروسيا لإشرافه على مضائق وممرات البحر الأسود، ولأنه إلى جانب (إسرائيل) من أكبر مزوّدي أوكرانيا بالسلاح وطائرات «البيرق دار» ثم بالمعلومات .
زرعت أوكرانيا آمالها وتقديراتها في وادٍ غير ذي زرع، فجميع من وعدها ونفخ في عضلاتها ما لبث أن تخلى عنها سريعاً، وتجلى ذلك بالمرارة التي تحدث بها رئيسها عن خيبة أمله: لقد تمّ التخلي عنا… يا وحدنا، هذا فيما العساكر الروسية تجتاح بلاده أرضاً وسماء، في حين لم تثبت لا قباب الباتريوت الحديدية ولا طائرات «البيرق دار» فعالية رادعة، اللهم إلا حسب بعض الفضائيّات ومنها واحدة خليجية، تتحدث عن أسر آلاف الجنود الروس وإسقاط عديد من الطائرات، وأن لا سيطرة على الأجواء الأوكرانية ولا دقة روسية في إصابة الأهداف، لدرجه تفكه بها بعض المراسلين بالقول: إنّ الأوكرانيين هم مَن أصبح على أبواب موسكو.
على حافّات خط النهاية المفترض تتوافر ملاحظات لا تعدّ وتصعب الإحاطة بها، ولكن يمكن تسجيل بعض منها، وهي دروس وتمرينات عملية لا نظرية فحسب :
أنّ الرئيس الروسي قد وضع في خطابة الاثنين قبل الماضي أسّس عقيدة قومية روسية جديدة، استنهض بها قوى الأمة الروسية بمعظم عناصرها الأمر الذي يمكن ملاحظته بالمشاركة الشيشانيّة، ونظرية أمن قومي جديدة وإنْ اعتمدت على التاريخ الاستراتيجي الروسي منذ أيام بطرس الأكبر، عالج بها ما اعتبره أخطاء الماضي، وسيلتزم بهذه الاستراتيجية من سيأتي بعده إلى سدّة الحكم، وذلك بأنّ أوكرانيا هي روسيّة بالأصل لا بل أم روسيا كما كانت تسمّى قديماً، وستعود وإنْ لم يكن كما في العهد القيصري، فإنّ روسيا لن تسمح ولا بأيّ حال من الأحوال أن تكون بها قواعد أو نشاطات معادية لروسيا .
أنّ روسيا تعمل على إعادة تشكيل الحلف القديم (حلف وارسو) ولكن دون الاسم، ودون إعلان، فهذه الجمهوريات التي خرجت من رحم الاتحاد السوفياتي يجب أن تبقى تحت المظلة الروسية، مثل كازاخستان، جورجيا، روسيا البيضاء وبالطبع أوكرانيا.
إنّ العقوبات الاقتصاديّة التي هي أقصى ما فعله الغرب، وهي عقوبات ليست سهلة، لكن من الممكن التعامل معها، وهي لن تكون مؤثرة بما يخفف أو يضعف الموقف الروسي، فالحروب على الدوام مكلفة، ومربكة للاقتصاد وتحدث قلقاً في الأسواق ونقصاً في بعض السلع الاستهلاكية، وهي أمور ستنال ولا بدّ من روسيا، ولكن بالشراكة مع دول أخرى وعلى رأسها دول أوروبا الغربية الشريكة في حلف شمال الأطلسي، ولا أظن أنّ أحداً يظن أن للرئيس الروسي أو وزير خارجيته حسابات في البنوك الأميركية حتى يتمّ تجميدها .
انكشف تهافت السياسة الأميركية وتفاهة رئيسها، وهم يريدون من الدول الهزيلة الدائرة في فلكهم دفع مغارم الوقوف ضدّ روسيا، الأمر الذي تردّدت به بعض الدول كالإمارات التي يقلقها قرب التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران والذي سيكون على حساب حلفاء أميركا في الخليج، وإدراك هؤلاء أنّ روسيا من يستطيع حمايتهم من إيران لا من باعهم وتجاوزهم عند الاتفاق مع طهران. من هنا كان امتناعها عن التصويت لإدانة روسيا في مجلس الأمن فيما قطر التي اعتبرها جو بايدن الحليف الأول لبلاده من خارج حلف شمال الأطلسي وذلك عندما دفعت مغارم انسحابه المذلّ من أفغانستان فلا يجد أميرها ما يقول لنظيره الأوكراني عندما اتصل به مستنجداً إلا أن ينصحه بضبط النفس واللجوء للتفاوض والدبلوماسية، وبهذا يكون قد أخذ موقفاً وسطاً غير منحاز للأوكرانيين، فيما أوكل مهمة الانحياز العلني لقناة «الجزيرة» وبعض من ضيوف الدوحة الذين شقوا جيوبهم حزناً على الأبرياء الأوكرانيين وأدانوا الغزو الروسي بعبارات تكاد تفوق إداناتهم لجرائم (إسرائيل) في غزة، وكأنّ تصريحات الرئيس الأوكراني ورئيس وزرائه الداعمة بشكل أعمى لكلّ عدوان «إسرائيلي» لم تشنّف أسماعهم.
أعلنت الحرب موت النظام العالمي أحادي القطبية، فلم تعد واشنطن تقود القطيع العالميّ بشكل لا شريك له، إنه مخاض ولادة نظام عالمي جديد، تشير ملامحه إلى انه قد يكون متعدد الأقطاب، ستكون أوروبا الغربية قطباً مستقلاً من درجة ثانية، فيما ستكون إنجلترا واستراليا مع الحلف الأميركي الأنجلو ـ ساكسوني .
أثبتت هذه الحرب مدى أهمية سورية لروسيا، سواء باتجاه وصولها للمياه الدافئة أو بوقوفها إلى جانب موسكو في هذه الأزمة، ترى سورية أنّ الأداء الروسي يهدف إلى تصحيح التاريخ وأخطائه، وما حصل عقب الحرب العظمى الأولى خاصة في اتفاقيتي بريست وريالتو والتي اعترف بها الاتحاد السوفياتي باستقلال أوكرانيا وتنازل عن مناطق في البلطيق وجنوب القوقاز. أنّ ما ردع (إسرائيل) عن التدخل في الأزمة لغير صالح روسيا هو وجودها في سورية، وهو أيضاً ما يضع كوابح أمام أية اندفاعه تركية غير محسوبة.
نظام القطب الواحد كان على الدوام منحازاً في غير كفتنا، وأيّ نظام عالمي جديد سيكون أفضل مما هو في طريقه للزوال، إيران ستكون قطباً مستقلاً أو شريكاً رئيساً في قطب يجمعها بآخرين، وستكون خارجة من حصار طويل وبقدرات اقتصادية ليست قليلة، الأمر الذي سيعزز في مدى متوسط من وضع حلفائها من غزة إلى المقاومة اللبنانية وسورية وحشد العراق الشعبي وانتهاء بصنعاء، فيما (إسرائيل) ستكون حيث تكون أميركا، وسيضعف ذلك من علاقاتها التطبيعيّة التي نجحت فيها في السنوات الأخيرة.
على هامش الاهتمام العالمي بما يجري في أوكرانيا يتضاءل الاهتمام بما يجري في فلسطين، وتصبح ـ وعذاباتها ـ أمراً هامشياً حتى عند أبنائها بمختلف تياراتهم المتناقضة، والعالم بدوره يرى ما يجري من اشتباكات شعبية في بيتا وغيرها أو اشتباكات مسلحة في جنين ونابلس أحداثاً ليست بالمهمة، فريق يرى أولوياته بالتوريث وترتيب قيادة جديدة، وفريق يرى بعض منه في مشروع المقاومة الطريق، فيما يرى شركاؤه أن لا بدّ من قطر وإن طال السفر.
لما كان ما تقدّم هو بعض ما أثبتته الحرب من حقائق، فإنها لتؤكد لنا مقولة إنّ القوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي وفي الدفاع عن مصالحنا الحيوية. القوة هي الأداة المثلى لتصحيح أخطاء التاريخ من سايكس ـ بيكو وسان ريمو ولوزان وسلخ لواء اسكندرون وانتهاء باتفاق أوسلو…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ