أوكرانيا وشبه جزيرة القرم من السلطنة العثمانيّة إلى روسيا
القنصل خالد الداعوق
معلوم أنّ شبه جزيرة القرم هي الموقع الذي تتمركز فيه القوى البحرية الكبرى الروسية، في البحر الأسود، وهي التي سبق أن استعادتها روسيا من أوكرانيا، هي أصلاً بلاد التتر المسلمين الذين أعطتهم معاهدة كوتشوك كاينارجي عام 1774 شبه استقلال عن الإمبراطورية العثمانية، ولكن شرط أن يبقى السلطان العثماني (الخليفة) بمثابة الأب الروحيّ للتتر في القرم.
كانت الغالبية الكبرى من القيادات التترية رفضت عملية الاستقلال عن الدولة العثمانية، حيث أدرك هؤلاء القادة أنّ عملية الاستقلال هذه التي أصرّ عليها الروس في اتفاقية السلام كوتشوك كاينارجي 1774، سوف تؤدّي إلى سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وبالتالي على التتر، وهذا بالفعل ما حدث لاحقاً، حيث ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم إليها سنة 1783. وجاء ستالين في ما بعد في ثلاثينيات القرن الماضي ليقوم بتهجير التتر من شبه الجزيرة، وإرسالهم إلى سيبيريا حيث يُقدّر عدد التتر الذين أبيدوا في تلك المرحلة بحوالي مليوني نسمة.
فما هي هذه الاتفاقية (اتفاقية كوتشوك كاينارجي) التي وُقعت في بلدة كوتشوك كاينارجي في بلغاريا.
أعطت هذه الاتفاقية، بالإضافة إلى سلخ شبه جزيرة القرم عن الدولة العثمانية، الحق لروسيا في التدخل لدى الدولة العثمانية لحماية رعايا السلطنة المنتمين إلى الطائفة الأرثوذكسية، وهناك عدة تفسيرات لهذا البند في الاتفاقية، حيث كان الروس أخذوا هذا البند ليطبّق على كافة المسيحيين الأرثوذكس في الدولة العلية.
وقد أتاحت الاتفاقية لروسيا بناء كنيسة في القسطنطينية (الكنيسة لم تُبنَ قط)، إنما تدخل روسيا في شؤون وأحوال الطائفة المسيحية الأرثوذكسية أتاح لروسيا المجال في تأليب الأرثوذكس ضدّ الدولة العثمانية.
وخاصة الثورة اليونانية في ما بعد، مما أدّى الى استقلال اليونان عن الدولة العلية عام 1829. كذلك التدخل الروسي لدى الأرمن ومحاولاتهم الانفصال عن الدولة العلية.
وقد أعطت هذه الاتفاقية لروسيا مرفأ آزوف على البحر الأسود، مما جعل هذا البحر متشاركاً مع روسيا ولم يعد بحراً عثمانياً.
انّ هذه الاتفاقية تعدّ كأوّل اتفاقية مذلة للعثمانيين حيث انهم اضطروا للتنازل عن أراضٍ ومدن في معظمها يقطنها مسلمون وليس مسيحيّين. وهذا ما يُسمّى تنازلاً عن أراض من دار الإسلام وليس من دار الحرب التي كانت تحتلها الدولة العثمانية إنما غالبية سكانها من المسيحيين.
وأيضاً أعطت هذه الاتفاقية الحق لمن يشاء من رعايا الدولة العلية باقتباس المسيحية دون أيّ رادع.
وأدّى التدخل الروسي في شؤون الأرثوذكس إلى كثير من المشاكل، خاصة لجهة دعم الحركات الاستقلالية لبعض هؤلاء في الدولة العثمانية، ما شكل بداية انحدار الدولة العثمانية. وما جرى في شبه جزيرة القرم سابقاً وما يجري في أوكرانيا اليوم يعبّر عن نتائج تلك التراجعات.
وأدّى سلخ شبه جزيرة القرم إلى تهجير التتر إلى سيبيريا ومنهم مَن انسحب مع الجيش العثماني إلى الداخل التركي، وهناك شخصيات تركية معروفة تعود أصولها إلى التتر مثل رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، وأيضاً رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس الذي انقلب عليه الجيش التركي عام 1960 وجرى إعدامه عام 1961.
في الخلاصة نجد أنّ كلّ ذلك أدّى إلى إحداث تغييرات ديمغرافية جوهرية في القرم، وليس من المتوقع حصول ذلك في أوكرانيا لأنّ الصراع هناك لا يتخذ طابعاً طائفياً أو مذهبياً إنما هو صراع سياسي اقتصادي له أبعاد استراتيجية على المستوى العالمي.