لا خوف على لبنان بوجود قدوة من مغتربيه
} علي بدر الدين
كأنه قدر مكتوب على اللبنانيين المقيمين والمغتربين، أن يدفعوا الضريبة تلو الأخرى، والأثمان الباهظة في أرواحهم وممتلكاتهم وعدم استقرارهم، ومن خوفهم الدائم على حاضرهم ومستقبلهم وحتى مصيرهم برمّته، في داخل الوطن وخارجه، وفي حلهم وترحالهم، حيث يتحوّلون بين ليلة وضحاها إلى صيد سهل، لكلّ حدث أمني أو اضطراب سياسي، أو أيّ أزمات اقتصادية واجتماعية تطرأ، أو صراعات على السلطة في أيّ دولة حطوا رحالهم فيها، للعمل والاستثمار، أو طلباً للعلم والتخصص في مجالات علمية مختلفة، لأنّ وطنهم الذي من المفترض أن يحتضنهم ويوفر لهم الفرص المتاحة للعمل والتعلّم والاستقرار، تخلى عنهم في زمن الحاجة إليه، ولفظهم ورماهم للمجهول، بعدما أقفل أمامهم كلّ منافذ تحقيق الأحلام والطموحات والعيش بأمان، فكان باب الهجرة الوحيد المفتوح أمامهم والمتاح لهم، حيث اضطروا مرغمين لأن يختاروا طريقه الصعب المجهول والمحفوف بالمخاطر، ويمّموا وجوهم إلى بلاد الله الواسعة في مشارق الأرض ومغاربها منذ ما قبل منتصف القرن الثامن عشر.
ولا تزال موجات الهجرة والاغتراب من هذا الوطن مستمرة وتتوالى بزخم كبير لغاية اليوم، وهي لا تقتصر على شريحة واحدة من اللبنانيين، بل طالت كلّ الشرائح الاجتماعية ومن كلّ المناطق، حتى غصّت بهم قارات العالم الستّ، من أميركا إلى أوروبا وأفريقيا وأستراليا، وصولاً إلى دول عربية مختلفة وتحديداً الخليج العربي، رغم حداثة الاغتراب اللبناني إليها…
هذا النظام السياسي الحديدي المحمي والمغلف بالطائفية والمذهبية والنفعية والمصلحية المشتركة لجماعة النظام، مستمرّ منذ ما قبل منح لبنان استقلاله عام ١٩٤٣، أنتج منظومة سياسية ومالية فاسدة ومرتهنة لمصالحها وللسلطة وللخارج، ولاّدة للأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية والخدماتية، التي كانت تتفاقم وما زالت، مع أيّ حدث أو قضية فعلية أو مفتعلة، من المنظومات السياسية، وأدت في نهاية المطاف إلى إحداث فتن وحروب متنقلة لزوم استمرار الهيمنة والتسلط، وإفقار الناس وتجويعهم وإذلالهم وإخضاعهم، وللأسف فإنّ هذه المنظومات السياسية المتعاقبة حققت أهدافها الشريرة والخبيثة، ونجحت في إدخال لبنان في متاهات الفلتان والفوضى والاحتكار والجشع ومصادرة الحقوق ونهب المال العام والخاص، والأكثر من ذلك، دفعت بمعظم الشباب اللبناني إلى الهجرة بحثاً عن عمل وأمل وحياة واستقرار مفقودة في وطنهم الأمّ، في ظلّ غياب ممنهج ومقصود للدولة والسلطة، عن أيّ أزمة أو محنة أو مشكلة أو ظروف قاسية وخطيرة يتعرّض لها اللبنانيون المغتربون في أصقاع المعمورة…
آخر هذه المخاطر ما تعرّضت له الجالية اللبنانية والطلاب اللبنانيون في أوكرانيا، الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية، التي شرّدتهم إلى دول مجاورة في أوضاع أمنية واقتصادية ومناخية معقدة جداً، حيث انعدم وجود ودور وفعالية السفارات والقنصليات اللبنانية داخل الحدث أو خارجه من السفراء والقناصل و»جيش» الموظفين الذين يكلفون خزينة الدولة ملايين الدولارات رواتب ونفقات وتشبيحات، وقد صدق من أطلق على بعضهم انهم «سفراء البطاطا»، لا يملكون مع وزارة الخارجية والمغتربين وبعض المسؤولين سوى دعوة الذين يكتوون بالحديد والنار والبرد والقلة إلى أخذ «الحيطة والحذر»، لأنهم ودولتهم «العلية» في عجز وفشل وإفلاس وليس «باليد حيله».
هذا الاعتراف الواضح والصريح ليس جديداً، بل هو متجذر في سياسة الدولة الرسمية تجاه المغتربين اللبنانيين، الذين ذاقوا مثل معاناة الجالية اللبنانية في أوكرانيا وربما أكثر، والتجارب الصارخة والمرة قديماً وحديثاً، لا تزال ماثلة في ذاكرة عائلات اللبنانيين المقيمين والمغتربين في أفريقيا، وفي وجدانهم وبيوتهم وأحزانهم وصور شهدائهم وضحاياهم المعلقة على صدورهم وجدران منازلهم، من دون أن تحرك الدولة وحكوماتها ووزاراتها المعنية ساكناً، أو تهبّ لنجدتهم وإنقاذهم ومساعدتهم بأقلّ الإمكانيات على الخروج بأمان من جحيم النار والبارود، ومن الحروب والصراعات ألتي كانت وبالاً عليهم، ودفعوا فيها أرواحاً ودماءً وخسائر لا تعدّ ولا تحصى.
التاريخ الأسود الذي عاشته بعض الجاليات اللبنانية في أفريقيا، خفف من وطأة قساوته وتداعياته المهلكة، مغتربون لبنانيون عمالقة، شكلوا لجان طوارئ مستعجلة، وهبّوا كلّ من موقعه ومكانته وقدراته المادية والإنسانية والوطنية، لإنقاذ إخوانهم حيث فتحوا لهم بيوتهم وأمّنوا لهم الإقامة والراحة والطمأنينة، ودفعوا من جيوبهم ومن دعم المغتربين القادرين، لنقلهم بالطائرات إلى دول أفريقية أكثر أماناً، او إلى لبنان، من دون أيّ دور للجهات الرسمية في الدولة، اللهم إلا توجيه الشكر لهم على ما فعلوه وأقدموا عليه.
من حقّ هؤلاء علينا اليوم ان نذكر بعضهم، إنصافاً وتقديراً لهم، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الرئيسان العالميان السابقان للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم أحمد ناصر، والراحل مسعد حجل، والرئيس العالمي الحالي عباس فواز الذي نوّه بمبادرة رجل الأعمال المغترب اللبناني في رومانيا الدكتور محمد مراد تجاه الطلاب اللبنانيين الذين خرجوا من أوكرانيا وأمّن نقلهم من الحدود الأوكرانية الرومانية إلى بوخارست عاصمة رومانيا واستقبلهم في فنادق «فينيسيا» التي يملكها، مقدّراً له بإسم الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم ما قام به تجاه هؤلاء الوافدين من إقامة وحسن ضيافة وكلّ ما يلزمهم، ثم تأمين تذاكر سفرهم الى لبنان. وأكد فواز أنّ محمد مراد بعمله الرائع جسّد شيَم المغتربين ورفع إسم لبنان عالياً في الخارج وهو قدوة في هذا المجال)، ومع فواز نائبيه عاطف ياسين وعلي النسر، ورئيس المجلس القاري الأفريقي الراحل نجيب زهر، والقناصل سعيد فخري وعلي سعادة ومعروف الساحلي وحكمت ناصر، ومحمد هاشم وعزت عيد، وغيرهم الكثير من رؤساء المجالس الوطنية والجاليات في أفريقيا، حيث لا يتسع المجال لذكر أسمائهم.
نتذكّر هؤلاء لتوجيه التحية لهم ولرجل الأعمال في رومانيا الدكتور محمد مراد الذي بادر من تلقاء نفسه إلى نجدة الطلاب اللبنانيين وإنقاذهم من خطر الحرب المحدق بهم، واستقبلهم في مؤسّساته الفندقية والسياحية التي يملكها في العاصمة بوخارست ومدن رومانية أخرى، بفائض من الترحاب والحب وجزالة الضيافة، وقدّم لهم الأمان والطعام، ثم نقلهم الى وطنهم على نفقته الخاصة. إنه ترجم كما غيره من مغتربي أفريقيا فعل إيمانه الوطني المسؤول، ووظف كلّ إمكانياته لدعمهم ومساعدتهم على تجاوز المحنة القاسية التي يمرّون فيها، وعبّر عن أصالة لبنانية متجذرة في نفسه، في ظلّ غياب كلي للدولة في لبنان، سلطة ومنظومة وحكومة، أفقرت شعبها وسطت على أموال المودعين المقيمين والمغتربين في المصارف، وحرمت الطلاب اللبنانيين في الخارج، من حقهم في الحصول على دولارات ذويهم المصادرة من المصارف، بذريعة ما أطلقت عليه زوراً «الدولار الطالبي»، الذي اخضعته لـ «خزعبلاتها» وألاعيبها واحتيالها لتزيد في معاناتهم.
ما فعله الدكتور محمد مراد ليس بجديد عليه، وهو الذي ساعد الكثير من الطلاب اللبنانيين في رومانيا، والذي نظم واحتضن في فندقه «فينيسيا» في بوخارست العام ٢.١٢ المنتدى الاقتصادي الروماني اللبناني لأفريقيا، وكنتُ يومها مشاركاً بالوفد اللبناني الاغترابي…
هنيئاً للبنان وجالياته وطلابه بأمثاله من المغتربين الذين يبعثون على الأمل والتفاؤل، وبأن لا خوف عليه، وإن طال زمن السارقين والفاسدين والسلاطين الجائرين.