الأزمة الأوكرانيّة والآتي هو الأسوأ…
د. جمال زهران*
هل الآتي هو الأسوأ فعلاً؟ حيث ورد على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد محادثة امتدّت لساعة ونصف الساعة (90 دقيقة)، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الخميس 3 مارس آذار 2022، أنّ الآتي أسوأ في ملف الأزمة الأوكرانية! وذلك دون تعليق، ودون إشارة إلى مضمون المكالمة وإلى الأسباب التي دعته إلى استخلاص ذلك، وهو رئيس دولة فرنسا، وهي واحدة من الدول الكبرى في العالم، وإحدى خمس دول دائمة العضوية وتمتلك حق الفيتو (الاعتراض)، داخل مجلس الأمن!!
وهناك تفسيرات شخصية، وأخرى موضوعية، يمكن الاستناد إليها في تحليل ما قاله، وذلك بهدف التوصل إلى إجابة على السؤال الأهمّ في إدارة الأزمة الأوكرانية، وهو: هل القادم أسوأ فعلاً أم لا؟
بالنسبة للتفسيرات الشخصية، فإنّ ماكرون، يميل إلى أن يبدو في المشهد الإعلامي للأزمة، ويصبح حديث الإعلام لأنه يميل إلى شهوة الظهور والشهرة، ومن ثم فإنّ الجمل الغامضة، تداعب خيال الإعلام، الذي يضعها على قمة أجندة هذا الإعلام، ويصبح ماكرون في الصورة، وكأنه يلعب دوراً محورياً في إدارة الأزمة. كما أنّ جهوده الاتصالية، حيث ذهب لمقابلة بوتين في موسكو قبل بدء الخيار العسكري لروسيا في أوكرانيا، ثم يكاد يتواصل يومياً، عبر الهاتف مع الرئيس الروسي بوتين، تجعله حديث الإعلام والمعلقين السياسيين في العالم، الأمر الذي يصبّ في دعم وجوده السياسي، وهو المقبل على انتخابات رئاسية جديدة خلال الأسابيع المقبلة! ويشير المعلقون إلى أنّ الفشل يلاحقه في إمكانية الاستمرار في رئاسة فرنسا لدورة جديدة، ولذلك يسعى إلى إنقاذ نفسه عن طريق افتعال هذا الدور، وتلك التصريحات الغامضة التي يلقي بها على مسامع الإعلام، والمعلقين السياسيين والمتابعين للأزمة الأوكرانية!!
أما عن التفسيرات الموضوعية، فإن ماكرون، بحكم أن فرنسا قائدة الاتحاد الأوروبي هذه الأيام، فإنّ الاضطلاع بمسؤولياته في إدارة الحوار الدبلوماسي مع الرئيس الروسي (بوتين)، وكذلك مع الرئيس الأميركي (بايدن)، يُعتبر شيئاً مهماً للغاية، ويظهر فرنسا باعتبارها قائداً فعلياً للاتحاد الأوروبي، ومحاولة الوساطة لتقليل حدة الأزمة ومحاصرة تداعياتها، وتفادي الأسوأ. إلا أنه فاجأنا بهذا التصريح بعد ساعة ونصف الساعة من الحوار مع بوتين، بأن الآتي هو الأسوأ!
والسؤال: ماذا دار بينه وبين بوتين، جعله يصرّح بذلك؟
الإجابة هي أنه ـ حسب تقديري ـ عرض على بوتين، ضرورة الانسحاب، والبدء في إجراء مفاوضات بين روسيا وأوروبا وأميركا، مع وقف القتال، فما كان من بوتين، إلا أن أوقفه وقال له: نحن مستمرون في عمليتنا العسكرية حتى النهاية حسب المخطط الروسي، وأنّ الأمر إذا استلزم، فإنه لا مانع لديه من استخدام السلاح النووي لردع أميركا وأوروبا، إذا ما لم ينصاعوا لمطالبه، حرصاً على حماية الأمن القومي الروسي. وأتصوّر أنّ الحديث والمفاوضات بين الرئيسين، لم يخرجا عن ذلك.
أما عن المتوقع خلال الأيام المقبلة على كافة المستويات، فيمكن طرح التصوّر في النقاط التالية:
1 ـ على المدى القصير، فإنّ سيطرة روسيا على أوكرانيا، وإسقاط العاصمة «كييف» في قبضتها، بات في حكم المنتهي، لتبدأ نقطة جديدة في إطار إدارة الأزمة، والمفاوضات، والمرحلة الدبلوماسية.
2 ـ على المدى المتوسط، فإنّ استعادة الإمبراطورية السوفياتية تحت حكم الدولة الروسية التي تمثل نحو (70%) من حجم هذه الإمبراطورية (مساحة وشعباً وإمكانيات)، بينما بقية الدول الـ (14) ومن بينها أوكرانيا تمثل الـ (30%) الباقية، أضحت هدفاً استراتيجياً لروسيا، يترجم مشاعر الشعب الروسي وشعوب الدول الأخرى التي كانت تحت مظلة الاتحاد السوفياتي. وبالتالي فإنّ شرعية روسيا وحاكمها، بدأت تتحدّد بمعيار القدرة على استرجاع الإمبراطورية السوفياتية مرة أخرى. ولذلك فإنّ حكام هذه الدول التي تقبع في ظلّ التبعية لأميركا وأوروبا، بدأوا يشعرون بالقلق بعد أن بدأت روسيا في استخدام القوة العسكرية في دخول أوكرانيا والسيطرة عليها، وأنّ احتمالات استرجاع دول الإمبراطورية بالقوة، أضحى يمثل الخطوات التالية، ويمكن أن يُقال إنّ هذا هو الأسوأ الآتي حسب التعبير للرئيس الفرنسي، على اعتبار أنّ الآتي ليس في مصلحة أوروبا وأميركا.
3 ـ الآن وعلى المدى الطويل، فقد ترسّخ نظام دولي جديد على قواعد مختلفة لما هو سائد أمس واليوم. حيث أنّ استخدام روسيا للقوة العسكرية بهذه الدرجة الكبيرة للسيطرة على أوكرانيا، ومن المحتمل أن تمتدّ لدول أخرى، يفرض قواعد جديدة في إدارة النظام الدولي.
كما أنّ ظهور الصين في المشهد ويحتاج إلى تفصيل مقبل، يشير إلى ترجيح ميلاد نظام دولي جديد يقوم على هيكل قوة متعدّد الأقطاب، والذي يتمثل في (روسيا ـ الصين ـ أميركا ـ أوروبا)، وأن الاستقطاب العالمي في الطريق بشكل واضح، وأنّ حرية الدول الصغرى ستزداد مع هذا الهيكل الجديد. الأمر الذي يقود إلى ضرورة إحياء حركة عدم الانحياز أو ميلاد حركة جديدة، وهيكل جديد، يتحمّس له قادة إقليميون جدد، كما بدأ في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، والتاريخ يعيد نفسه مرة أخرى. ودعونا ننتظر الأحداث المقبلة، وما يعتبر «أسوأ» بالنسبة للغرب حسب تقدير ماكرون، قد يكون في صالحنا، نحن العالم الثالث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ