قصف قاعدة «الموساد» في أربيل: رسائل إيرانيّة متعدّدة
العميد د. أمين محمد حطيط*
منذ أن تبلور الوضع الخاص لكردستان العراق في الشمال العراقيّ واتخذ شكلاً بين وضعين: وضع الاستقلال التام الناجز غير المرتبط بالدولة الأمّ، ووضع الحكم الذاتي الذي يراعي علاقاته بالدولة التي ينتمي اليها، مع أرجحيّة ظاهرة للوضعية الأولى مع استفادة دويلة الكرد في الشمال من حسنات الوضعين معاً، بحيث تبقي على ارتباط ما بالدولة المركزية بالمقدار الذي يسمح لها أن تأخذ منها دون ان تلتزم أو تنفذ أيّاً من التزاماتها لديها وتمارس بعد ذلك استقلالها وذاتيتها الخاصة بشكل شبه تامّ. منذ أن تشكل هذا المشهد الهجين تحوّلت كردستان العراق الى حليف واقعي لـ «إسرائيل» التي تغلغلت في معظم شرايين الكيان وعششت فيه ومارست الى جانب أميركا وبالتفاهم معها دور الرعاية والوصاية لذلك الكيان.
وانطلاقاً من وضعيتها التفضيلية الخاصة تلك اتخذت «إسرائيل» من كردستان العراق منصة لإدارة عمليات أمنية واستعلامية ليس في إيران فحسب، بل في كامل آسيا الوسطى حتى حدود الاتحاد الروسي وأقامت في أربيل ـ عاصمة الإقليم الكردي ـ قاعدة مركزية أساسية للموساد لإدارة تلك العمليات الأمنية والاستعلامية في مسرح عمليات واسع يشمل العراق وتركيا وإيران وأذربيجان وأرمينيا، مع التركيز بشكل واضح على إيران التي تعتبرها «إسرائيل» العدو الأول لها. وقد جرى كلّ ذلك بعلم وموافقة من حكومة الإقليم ذي الحكم الذاتي ودون تدخل أو موقف من الحكومة المركزية في بغداد التي لا يزال دستورها وسياستها الخارجية الرسمية المعلنة تعتبر «إسرائيل» عدواً وتمتنع عن إقامة العلاقات معها في سياق ما يروّج له من موجة التطبيع التي تستشري في المنطقة عملاً باتفاقات ابراهام برعاية أميركية.
وفي السنتين الأخيرتين قامت «إسرائيل» وعبر المركز الرئيسي للموساد في أربيل بأكثر من عملية تخريبية وعدوانية واستخبارية في الداخل الإيراني، عمليات أوْدت بحياة أشخاص ذوي أوضاع ومواقع مميّزة خاصة علمياً وأمنياً وسياسياً، كما أنها تسبّبت في الإخلال بالأمن والاستقرار في أكثر من منطقة، وكانت تتوصل إيران في تحقيقاتها الى تحديد مسؤولية المركز الرئيسي للموساد في أربيل عن هذه الأعمال العدوانية والجرمية، وكانت تلفت نظر مَن يعنيه الأمر الى مغبة متابعة هذا السلوك وخطورة إعطاء التسهيلات لـ «إسرائيل» للنيل من أمنها وأمن الآخرين، لكن يبدو أنّ أحداً في العراق لم يلتفت الى التحذيرات الإيرانية حتى كان ١٤ شباط ٢٠٢٢ حيث قامت مسيّرات «إسرائيلية» وبتخطيط وتوجيه من هذا المركز «الإسرائيلي» باستهداف منشآت صناعية عسكرية إيرانية في كرمنشاه وأوقعت فيها خسائر معتبرة، ثم تلا ذلك بأيام استهداف مركز عسكري سوري جنوبي دمشق بقصف صاروخي أدّى الى استشهاد خبيرين عسكريين من الحرس الثوري الإيراني يعملان لدى الجيش العربي السوري كمستشارين.
إنّ تمادي «إسرائيل» في تصرفاتها العدوانية ضدّ إيران وأمنها استوجب رداً إيرانياً لا يمكن إهماله، لأنّ في الإهمال تشجيعاً للمعتدي على ارتكاب مزيد من الجرائم، وبالتالي فإنه كان من الضروري جداً ان تردّ إيران بشكل مدروس وان توجه رسائل الى من يعنيه الأمر تناسب الخطر المحدق بها، لذلك اختارت قصف مركز الموساد في أربيل بصواريخ ذات دقة عالية وأنزلت بالمعتدي «الإسرائيلي» وحده دون المسّ بغيره، خسائر بشرية مؤكدة تجاوزت الـ ١٢ إصابة بين قتيل وجريح (٤ قتلى و٨ جرحى) من العسكريين والأمنيين العاملين في المركز والمسؤولين عن تنفيذ بعض الأعمال العدوانيّة المشكو منها. وفي تحليل وتفسير للردّ الإيراني يمكن القول بأنّ إيران شاءت بصواريخها الـ ١٢ التي انطلقت من منصات منصوبة على الأرض الإيرانية على مسافة تقارب ٣٠٠ كلم من الهدف النقطي المستهدف، أن توجه الرسائل التالية:
ـ الى العراق عبر حكومته المركزية، لتقول له انّ هناك وجوداً «إسرائيلياً» على الأرض العراقيّة وهو وجود غير مشروع وفقاً للسياسة العراقية المعلنة والتي تعتبر «إسرائيل» عدواً، ما يفرض معالجة هذا الأمر حفاظاً علي سيادة العراق واستقلاله وعلاقته بجيرانه لكون هذا الوجود يمارس أعمالاً عدائية وإجرامية ضدّ المحيط.
ـ الى حكومة أربيل ـ الحكم الذاتي ـ لتقول لها إنها ليست حرة في التعامل مع العدو «الإسرائيلي» وفتح الأبواب له للعبث بالأمن الإيراني. وإذا قصّرت حكومة الإقليم في القيام بموجباتها ومنع هذا التجاوز، فإنّ إيران ومن منطلق الدفاع المشروع عن النفس لن تدّخر جهداً في حماية نفسها وشعبها حتى ولو استلزم الأمر عبور الحدود لأنّ مَن فرّط بسيادته وجعل الغير يستعمل أرضه للاعتداء على الآخرين لا يحق له منع المتضرّر من الدفاع عن نفسه بحجة السيادة.
ـ الى العدو «الإسرائيلي»، وهنا كانت الضربة الصاروخيّة بقرارها وكيفية تنفيذها ونتائجها تحمل أكثر من رسالة ومعنى منها:
*القرار الإيراني الجازم والصارم بالردّ على أيّ عدوان يستهدف إيران، فكما قصفت قاعدة عين الأسد الأميركيّة في العراق رداً على اغتيال الشهيد قاسم سليماني، قصفت مركز الموساد الإسرائيلي رداً على اعتداءات سابقة. ولا أهمية للمدة التي تفصل الردّ العقابي عن العدوان ذاته.
*دقة القوة النارية الإيرانية في الوصول الى الهدف حتى ولو كان نقطياً، وطبعاً يعلم الخبراء والمختصون ماذا تعني الإصابة الدقيقة لمبنى محدّد بصاروخ يطلق عن بعد ٣٠٠ كلم، وهنا ستفكر جيداً «إسرائيل» بمستقبل ينتظره الصهاينة في مواجهة الصواريخ الدقيقة التي تمتلكها المقاومة.
*حجم القوة التدميريّة وفعالية الصاروخ على الهدف وهي أمور لا يمكن ان تحجب ولا يمكن أن تمتع الآثار السلبية المعنوية والمادية لها.
ـ الى مفاوضات فيينا حول النووي الإيراني وبشكل خاص لأميركا ومن خلفها «إسرائيل» وسواها، لتقول إنّ البرنامج الصاروخي الإيراني هو حاجة إيرانية دفاعية لا يمكن التخلي عنها تحت أيّ ظرف من الظروف، وإذا خيّرت إيران بين فشل المفاوضات وبقاء الحرب الاقتصادية ضدّها من جهة وبين التخلي عن برنامجها الصاروخي من جهة مقابلة فإنها تختار الوضع الاول وبكلّ تأكيد ولا تفرّط بقدراتها الصاروخية ولن تعرّض مصالحها الأمنية الدفاعية للخطر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ