صربيا رأس جبل الجليد الأوروبيّ
ناصر قنديل
– لا تزال بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حسرة تفكك الاتحاد السوفياتي كتعبير عن اللحظة السوداء التي تغير فيها وجه العالم نحو السطوة الأميركية المهينة، كمقدمة لمشروع إخضاع روسيا وتفكيكها، ولا يزال النظر لنهاية الحرب الباردة من طرف واحد هو روسيا يقابله اعلان استمرارها من الطرف المقابل وهو أميركا، سعياً لإذلال روسيا وتفتيتها، لكن كلمة السر في المقاربتين الروسية والأميركية لا تزال اسمها بلغراد، التي كانت عاصمة يوغوسلافيا قبل تفتيتها، وهي عاصمة صربيا اليوم.
– ينظر الروس للحرب على بلادهم كمحاولة عنصرية لإضعاف وتشتيت السلافيين واجتثاث تأثيرهم في رسم المشهد الأوروبي، والسلاف أو الصقالبة هم أكبر مجموعة عرقية لغوية في أوروبا ينتشرون في روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وبلغاريا وبولندا ومقدونيا، ويدين أغلبهم بالمسيحية الأرثوذكسية التابعة للكنيسة الروسية، ولذلك يعتبرون، وفي مقدّمتهم يعتبر الرئيس بوتين، أن حرب تقسيم وتدمير يوغوسلافيا في عام 1992، التي تأخذ اسمها من السلافية، كانت حرباً مدبّرة أعطيت طابعاً عرقياً ودفع بها لتتحول الى مدخل لفرض مشروع تفكيك وحدة يوغوسلافيا، وإخضاع صربيا التي بقيت اكبر تجمع سلافي بقي من يوغوسلافيا بعد تفكيكها، ويجري النظر لمساعي الحكم المؤيد للغرب في أوكرانيا بشق الكنيسة الأرثوذكسية، وتأسيس بديل للكنيسة الروسية من جهة، ولمحاصرة السلافيين ذوي الأصول الروسية في شرق وجنوب أوكرانيا، كترجمة للحلقة الثانية من الحرب.
– يقرأ الأميركيون والروس في كتاب صربيا علامات النجاح والفشل، وقد يكون من المبكر الحديث عن تغيير وشيك في وضعية صربيا السياسية تجاه وقائع حرب أوكرانيا وتداعياتها، لكن النجاح الأميركي في ادارة الحرب سيترجم مزيداً من الالتحاق المهين لصربيا بالمركز الأوروبي سعياً لاتقاء المزيد من الخسائر، والنجاح الروسي في إدارة الحرب سيعني ظهور صوت صربيا أعلى فأعلى، في انتقاد السياسات الأوروبية، ورفض الالتحاق بركب التبعية الأوروبية لأميركا.
– ما صدر عن وزارة الخارجية الصربية على لسان كبير مستشاري الوزارة والناطقين باسمها فلاديمير كلشليانين بداية الغيث السلافي في أوروبا لنصرة النهوض الروسي، فالقول “إن الغرب ومن خلال تصرفاته يساعد في تشكيل نظام عالمي جديد دون هيمنته”، وإن “الناتو يعرف أنه لا يستطيع هزيمة روسيا، وإن عالماً جديداً قد ظهر بالفعل، بقيادة روسيا والصين، وبداية من صربيا”، كذلك الإشارة إلى أن “النظام الجديد سيكون خاليًا من الفاشية والإرهاب و”الثورات الملونة” التي يدعمها الناتو بانتظام وبشكل دوريّ”، وأن “أوكرانيا سقطت ضحية للناتو، تماماً مثل يوغوسلافيا. وبالنفاق نفسه المتوقع الذي لا حدود له”، كلمات لا يمكن أن تمرّ دون تدقيق ودراسة وتحليل في كل من موسكو واشنطن.
– من الآن وصاعداً ستتم مراقبة المشهد في قلب أوروبا، حيث صربيا على حدود رومانيا والمجر وبلغاريا، الدول المعنية بالحرب. ومن بين هذه الدول تقف المجر موقفاً متوازناً من الحرب ومن سياسات حلف الناتو ضد روسيا، وسيدفع موقف صربيا لبدء تشكل ثنائي أوروبي جديد، ومع تحوّل مشروع حياد أوكرانيا الى خيار وحيد للحل، سيفتح التفاوض حوله الطريق لدعوات تعميمه نحو دول أخرى، وكأن مساراً معاكساً لما شهدته أوروبا الشرقية بعد العام 1990 وتفكك الاتحاد السوفياتي، يوشك أن يبدأ، وليست صربيا فيه إلا رأس جبل الجليد.