توغل الطبقة المصرفيّة في المجلس النيابيّ
بشارة مرهج _
العديد من النواب الحاليين يستعدّ لترشيح نفسه في الانتخابات النيابية المقبلة وكأنّ شيئاً لم يحدث في دورة المجلس التي تشارف على الانتهاء، أو كأننا نعيش في كوكب آخر، بينما البلاد تعيش، حتى اللحظة، أحداثاً جساماً على الصعيدين السياسي والاقتصادي تطوّرت وتفاعلت عبر السنوات الماضية وأدّت إلى كارثة مقيمة في كلّ دار ومؤسسة، خاصة لدى الطبقات محدودة الدخل حيث انضمّت جموع الأكثرية إلى دائرة الفقر التي يخجل لبنان الرسمي من الإفصاح عنها بوضوح، لأنها تدين كلّ المسؤولين من القطاعين العام والخاص.
وقد كان يُفترض بالنواب، باعتبارهم مفوّضين من الشعب للدفاع عن مصالحه، التصدّي لكلّ ما جرى من جرائم مالية وانحرافات إدارية عبر آليّة المراقبة التي تبيح لهم مساءلة الحكومة واستجوابها ومعها مؤسّساتها وإداراتها حفاظاً على حقوق القطاع العام وودائع القطاع الخاص التي هدرت واستبيحت ونهبت رغم أصوات التنبيه والتحذير والإدانة التي كانت تتوالى عبر أقلام موضوعية وأصوات حيادية.
لكن المجلس وخاصة عبر “لجنة المال والموازنة” (عين المجلس على الشأن المالي ومرشدته) انضمّ في معظم الأحيان الى صفوف المحتكرين والمضاربين والمغامرين من أصحاب المصارف والأموال، فراعى مصالحهم وغطى مخالفاتهم وتصدّى حتى لبعض محاولات التصحيح التي فرضت نفسها. (خطة التعافي المالي التي قدّمتها حكومة الرئيس حسان دياب) مما ساهم في انفلات الوضع وتسجيل خسائر على الدولة وأهلها بعشرات مليارات الدولارات، معظمها اليوم موجود خارج البلاد في حسابات وعقارات تخصّ أطراف المنظومة المالية المستوطنة في كلّ مؤسسات الدولة والمجتمع، ومن بينها مجلس النواب، الذي يُعتبر حسب الدستور هيئة الرقابة العليا وحارس حقوق الجمهورية وحامي حقوق الإنسان.
وإذا كان المجلس اليوم قد تخلى عن معظم واجباته الرقابية بسبب إنهاكه بالانتخابات النيابية، باعتبارها استحقاقاً دستورياً لا يؤجّل، فإنّ قوت الفقراء وحقوق المودعين وحاجة الناس إلى الدواء والغذاء والمحروقات تعتبر أيضاً استحقاقاً وطنياً لا يؤجّل، ولا يمكن ولا يجوز لمجلس النواب أن يتجاهله مما يستتبع سؤالاً آخر: لماذا لم يهتمّ مجلس النواب طيلة الفترة الماضية في الشأن الاقتصادي الاجتماعي حفاظاً على قيمة الليرة اللبنانية وسلامة الاقتصاد الوطني وضرورة تنشيطه بعدما أوصدت الطبقة المصرفية أبوابه وسدّت شرايينه؟ بل لماذا اعتبر المجلس نفسه في معظم الأوقات مديناً لهذه الطبقة ومرغماً على تغطية انحرافاتها وأوّلها سرقة الودائع والتصرّف مع الناس وكأنهم متسوّلون مزعجون ينبغي السطو على ودائعهم دونما اعتبار لجهدهم وكدحهم طيلة عقود من الزمن؟
إنّ إهمال المجلس لهذا الشأن وامتناعه عن إصدار قانون “الكابيتال كونترول” واستهتاره بالتحقيق الجنائي وسكوته على “أخطاء” حاكم البنك المركزي المطروحة على بساط التحقيق في خمس عواصم عالمية، كلّ ذلك أدّى إلى التدهور المريع الذي يتحدث عنه القاصي والداني، بعضهم من باب التعجّب وبعضهم الآخر من باب الشماتة، خاصة عندما يرى الرأي العام العالمي عدداً من المسؤولين اللبنانيين يتجوّل بطائراته الخاصة مستجدياً المساعدات والقروض دون أن يتحمّل مسؤوليته في محاربة الهدر والفساد ودون أن يكلف نفسه تحمّل أعباء مستشفى أو مدرسة؟!
صحيح أنه من حقّ النواب الحاليين الترشح للانتخابات ولكن من حقّ الجماهير المتألمة أيضاً ان تسأل هؤلاء ماذا فعلتم لوقف عمليات تهريب وسرقة الأموال والودائع؟ ماذا فعلتم لاستعادتها؟ ما هي خططكم المعلنة في هذا السبيل؟ طبعاً الجماهير لن تسأل أولئك الذين “أفحموا” الشعب بمحاضراتهم ومناظراتهم مدّعين الحرص على المال العام والخاص ثم خطفوا رجلهم إلى لندن ونيويورك لشراء بعض القصور والمصالح التي فضحتها الوثائق. وهي بالطبع لن تسأل أولئك الذين سطوا على حقوق الغير كالوحوش الضارية مستفيدين من غموض التشريع وطائفية النظام وخراب مؤسّساته، وإنما ستسأل ما تبقى من هذا الكيان النيابي قادراً على معاينة المأساة والتصدي للجريمة المتمادية المتمثلة بقتل المرضى وسائر المعلقين على خشبة الفقر المدقع، ستسألهم: “ما معنى أيّ برنامج سواء كان لحزب أو مجموعة أو شخص لا يعتبر إنجاز التحقيق الجنائي بخسائر البنك المركزي واستعادة الأموال المنهوبة إلى الخارج أولوية مطلقة؟!”.
فهذان الأمران لا يحققان العدالة فحسب وإنما يسهمان في إطلاق الحركة الاقتصادية بدلاً من انتظار مضن لحفنة دولارات لا تحلّ المشكلة فضلاً عن الشروط القاسية المثقلة بها…