الرفيق الدكتور جورج عطية… حافظ التراث العربي في أميركا
ـ أثناء دراسته في الجامعة كان مرافقاً للحركة الفكرية والأدبية في لبنان والعالم العربي فنشر عدداً من المقالات التاريخية والقصص القصيرة كما نشط في الحياة السياسية مشاركاً مع الحركات الطلابية في صراع العقائد في حينه...
كنا بتاريخ 25/04/2008 نعينا الرفيق الدكتور جورج عطية في نشرة عمدة شؤون عبر الحدود، وإذ ننشر اليوم سيرة الرفيق الراحل الذاتية، نشيد بعطاءاته الثقافية والأدبية وبمناقبيته وما استطاع ان يقدمه على الصعيدين الحزبي والعلمي.
*
ولد جورج عطية سنة 1923، في بلدة أميون الكورة (لبنان). وكان كبير إخوته العشرة. وفي ذلك الحين، في مطلع الانتداب الفرنسي، لم تكن المدارس في أميون قد خرجت بعد مما نالها من صدمات الحرب العالمية الأولى. فلم يكن ثمة سوى مدرستين صغيرتين، وكان جورج الصغير يصغي لوالده يقرأ له القصص، ويروي له الحكايات المغرية عما كان يشاهد في بلاد الغربة وقد عاد منها بعد نهاية الحرب. فأدرك بالفطرة ما ينتظره من دور في بيئته الصغيرة، لكي يبني نفسه أولاً، ولكي يرسم الطريق لإخوته ثانياً. فبالقدوة يستطيع أن يحرك فيهم الطموح والتطلع إلى ما وراء الحدود الصغيرة. فبدأ دراسته في مدرسة الغرفة الواحدة في القرية، يتحلق فيها الأطفال حول المعلمة تحت سنديانة كبيرة، مظلة، ثم يدخلون القبو الكبير، يتعلمون فيه المبادئ الأولية في القراءة وقليلا من الحساب وظلّ يحلم بيوم آخر. وما شارف العاشرة، حتى دارت دورة جديدة للزمن، بدأ فيها جورج الصغير رحلة الألف يوم.
ثلاثة أشياء كانت هناك لتدفع به نحو الطموح الكبير الذي كان يفتقده ليفتح عينيه على صورة المستقبل.
أولها الأثر العميق الذي تركه فيه والده المرحوم نقولا عطية، الذي مات عن 95 عاماً وكان الى أعماله الكثيرة قد مارس التعليم في مطلع حياته، وجمع الكثير من الكتب التي كان يتركها بين يدي جورج ويشجعه على قراءتها، لا سيما ما كان منها لجبران خليل جبران.
ثانياً، ما كاد جورج يبلغ العاشرة من عمره حتى افتتحت المدرسة الابتدائية الرسمية في اميون، فكان من أوائل الذين انتقلوا اليها، وتعلم فيها ما تعلم. ولم يقتنع.
ثالثاً، وكان جورج في تلك الفترة لا يزال يقرأ في كتب جبران، فصدمه أن يسمع بخبر وفاته. ولكن سرعان ما سري عنه عندما أدركه أنّ جثمان الكاتب الكبير سيمر في أميون، في أميون بالذات، في طريقه من أميركا إلى بشري مسقط رأسه. وكم كان اعتزازه كبيراً عندما اصطحبه والده الى المحفل الكبير في ساحة أميون، فشهد الموكب الضخم الجليل، ورأى بأمّ العين كيف يكون التكريم بما يشبه تكريم الأنبياء، فوجم وعاد إلى نفسه، يفكر، وسرعان ما انصبّ على كتب جبران يقرأها من جديد، يقرأ فيها كل شيء. فاتتشى بأفكارها التقدمية وأسلوبها المتحرر، الطريف، ورسخت في ذهنه صورة المستقبل. ولكم راودت نفسه أن يكون ذلك الكاتب الكبير، فألف عشرات القصص والروايات التي لم يعرف في حينه كيف ينشرها، وهي لا تزال في إضبارته، وما عاد يرضى بها الآن كمادة للنشر.
وعند بلوغه الخامسة عشرة من عمره، التحق بالمدرسة الأميركية للصبيان في مدينة طرابلس، فاندفع في الدراسة، متابعاً هوايته في قراءة الكتب، وبدأ يبني النواة الأولى لمكتبته في أميون، وكان يجتزئ ثمنها من الخرجية التي كان يقدمها له والده لمصاريفه الخاصة.
وانتمى، من بعد، إلى كلية حلب الأميركية، ونال منها دبلوم التخرج بمستوى الصوفمور. ونظراً لتفوقه، عرضت عليه ادارة الكلية أن يدرّس في صفوفها الابتدائية وأن يتولى في الوقت نفسه إدارة مكتبتها، وكانت مكتبة غنية في حقول كثيرة، خصوصاً في تاريخ الشرق الأوسط. فصرف هناك سنة جمع خلالها ما يكفيه من المال لمتابعة دراسته، كما أشبع نهمه بما تزخر به المؤلفات العربية والانكليزية والمجلات التي عمرت بها مكتبة الكلية، والتي لم تكن متوافرة له في الأماكن التي عرفها من قبل.
وفي الجامعة الأميركية في بيروت، نال سنة 1948 شهادة البكالوريوس في التاريخ العربي وفي الفلسفة، ودرس سنة في الثانوية العامة، وعاد بعدها إلى الجامعة لينال سنة 1950 شهادة الماجستير في التاريخ العربي، وكان موضوع أطروحته: “نشوء فكرة سورية الكبرى وتطورها”، وكان موضوعاً يثير الكثير من الاهتمام في ذلك الزمان، ويحمل في طياته إمكانات سياسية وحضارية بعيدة المدى.
وأثناء دراسته في الجامعة، كان مرافقاً للحركة الفكرية والأدبية في بيروت والبلاد العربية، فنشر عدداً من المقالات التاريخية والقصص القصيرة، كما نشط في الحياة السياسية مشاركاً مع الحركات الطلابية في صراع العقائد في حينه. وكان في طليعة القضايا التي استحوذت على تفكيره في تلك الحقبة دور المناقب في الفكر السياسي، سواء في الأحزاب السياسية المناضلة أو في الحكم. كان يدعو إلى النظام الجديد، وينفر من طبائع الاستبداد.
وفي هذه المرحلة حصلت مفارقة مما يغيّر، عن قصد أو غير قصد، طريق الانسان في الحياة. وذلك أنه كان قد دُعي ليكون مفتشاً للمعارف في وزارة التربية في لبنان، على عهد الأمير رئيف أبي اللمع، فوافق على المبدأ في سبيل الخدمة في البلاد، وانتظر صدور المرسوم الشهور الطوال. وفي هذه الأثناء، جرت له مقابلة مع مندوب للإدارة البريطانية التي كانت تتولى في حينه شؤون التعليم في ليبيا، وذلك لكي يقوم بالتدريس في كلية طرابلس الغرب. وما أن تعاقد للسفر حتى جاءه مرسوم تعيينه مفتشاً للمعارف في وزارة التربية، فأسف كثيراً لهذا التأخير، وبقي على نية السفر إلى ليبيا، احتراماً لتعهّده. وسار في طريق الغربة.
وفي تلك السنة وقد نالت فيها ليبيا استقلالها، عمل في وقت فراغه مراسلا لجريدة “النهار”، ينقل اليها الأخبار الجارية في حينه. وكذلك صرف الكثير من وقته في التنقيب عن دور الفينيقيين في تاريخ ليبيا القديم وهو دور مهمّ ولا يزال مجهولاً، وجمع الكثير من المعلومات والملاحظات ليضع كتاباً حول ذلك.
وفي سنة 1951، سافر من ليبيا إلى الولايات المتحدة لمتابعة الدراسة في جامعة شيكاغو، حيث أمضى أربع سنوات للتخصص في اللغات والآداب الشرقية، فدرس تاريخ الفكر العربي والاسلامي، ومن اللغات القديمة اليونانية والسريانية والعبرية ، كما درس في مجال اللغات الحديثة اللغتين الالمانية والايطالية التي كان قد بدأ يتعلمها في ليبيا.
ومن أهمّ أعماله في شيكاغو الرسالة التي تقدّم بها لنيل شهادة الدكتوراه، وهي تدور حول فكرة المعجزة لدى الفيلسوف ابن سينا، معتمداً مخطوطته في “المعجزات والكرامات” التي حققها وقدّم لها بدراسة وافية عن مكان المعجزات في فلسفة ابن سينا، وقارنها مع مكانتها عند غيره من الفلاسفة، مبيّناً علاقتها بالفلسفة اليونانية.
وفي جامعة شيكاغو، التقى نصفه الآخر، اذ تعرّف على الآنسة دايزي روبر (Daisy Roper) من بورتوريكو، وهي استاذة جامعية في الرياضيات، فتزوجا بعد التخرّج، وكان لهما، من بعد، عائلة صغيرة من ثلاثة أولاد، حقق كلّ منهم نجاحه في ميدانه.
وفي سنة 1954، تعاقد الدكتور جورج مع جامعة بورتوريكو للتعليم فيها في مجال العلوم الانسانية حيث سرعان ما أتقن اللغة الاسبانية، فحاضر فيها وألف، ومن ثم أصبح رئيساً لهذا القسم، فأدخل عليه كثيراً من البرامج الجديدة المتميّزة، معززاً فيها حصة الفلسفة الاسلامية والفكر الشرقي.
ومن الشؤون التي استأثرت باهتمامه في تلك الحقبة دراسته حول الفيلسوف الكندي التي أصدرها في كتاب أسماه: “الكندي، فيلسوف العرب”، وهو أول كتاب متكامل باللغة الانكليزية عن هذا الفيلسوف، وقد أعيد طبعه وترجم الى بعض اللغات الشرقية الاسلامية.
ومن كتبه التي نالت رواجاً في هذه الفترة كتاب أسماه: “من حضارتنا”، أدخل عليه الأسلوب التحليلي في السرد، وتناول فيه فكرة الخلق المستقل عند شعوب المنطقة الشرق أوسطية، أو فكرة “العالي” وقد جاءت مهداً لنشوء الأديان السماوية. وكذلك حاول ابراز أثر التلاقي بين الفكر اليوناني والفكر المشرقي، من خلال دراسة علاقة الفينيقيين باليونان والتعريف بأعمال كتاب من أمثال لوقيانوس السميساطي، وكان قد قدّم له الدكتور خليل الجر وهو من العلماء الذين عنوا في تلك المرحلة بمسألة الفكر الهليني.
وفي جامعة بورتوريكو، انتخب الدكتور عطية رئيسا للجمعية التاريخية ورئيسا لتحرير مجلة “historia”، فأبرز من خلالهما إسهام العرب في الحضارة الغربية، وترجم قسماً من رسالة حي بن يقظان لابن طفيل الى اللغة الانكليزية وقد تمّ نشره في كتاب: “الفلسفة السياسية في العصور الوسطى”.
أما المرحلة الحاسمة في حياته فكانت عندما دُعي ليتولى رئاسة قسم الشرق الأدنى في مكتبة الكونغرس الأميركية، فقبل الدعوة بعد تردّد، وانتقل الى واشنطن، حيث أدار أعمال هذا القسم، وهو خاص بالعالم العربي، وتركيا، وإيران، وأفغانستان، وآسيا الوسطى، ومناطق القوقاس. فركز جهوده في البدء على تحسين أرصدة المكتبة من المطبوعات الصادرة من تلك المناطق، حيث بات المخزون العام للمطبوعات بلغاتها الأصلية الآن يقارب ربع مليون، بالإضافة الى ثمانية آلاف مجلة وصحيفة. وفي ترحاله الطويل في مختلف البلدان التي تدخل في مجال عمله، حقق نجاحاً كبيراً في جمع مطبوعات نادرة ومخطوطات عمل على حفظها بالوسائل الحديثة.
ومن حسن المصادفات أنه كان قد حفظ في الميكروفيلم عدداً من المخطوطات المحفوظة في الأديرة اللبنانية والسورية، منها أكثر من 45 مخطوطة من مخطوطات دير البلمند النادرة، مما يعوّض جزئياً عما أصاب تلك المخطوطات من تلف أو تهجير في أثناء الحرب الأخيرة.
وفي كلّ ذلك لم يغفل عما قدّمه المهاجرون الأوائل إلى الصحافة العربية في أميركا بخاصة، وللحركة الأدبية الحديثة بعامة. فراح يجمع العديد من الصحف والمجلات الكبرى من أمثال: الهدى، ومراة الغرب، والنسر، والبيان، والسائح، والسمير، والعصبة، والأخلاق، والفنون، وهي في مجموعها تؤلف الرصيد الفكري الذي نشأ عليه الأدب المهجري وشارك في تكوينه كبار الأدباء من أمثال الريحاني، وجبران، ونعيمه، وابو ماضي، وسواهم من أعضاء الرابطة القلمية.
ومن أعماله التي أسهمت في تسهيل الأبحاث العلمية حول الشرق الأوسط في أميركا أنه عمل على تكوين ونشر فهارس موحدة للمواد الشرق أوسطية الموجودة في مكتبات الولايات المتحدة، ومنها ما أصبح من الفهارس الممكننة. ومن أهمّها في هذا المجال “بيبلوغرافيا” مفسّرة وشاملة عن الشرق الأوسط، وقد ظلت مدة طويلة أحد المراجع المهمة في الأبحاث والدراسات العليا في أميركا. وهي من المشروعات التي تحتاج إلى مراجعات دائمة وتجديد.
أما بالنسبة للعمل المكتبي في البلاد العربية فإنه عمل جاهداً على تنشيط التعاون بين مكتبة الكونغرس ومكتبات العالم العربي بعامة ولبنان بخاصة، وذلك من خلال المحاضرات والاتصالات الشخصية والمشورة الفنية التي كان حريصا على تزويد المسؤولين الاداريين العرب بها.
ولعلّ ما سيخدم الأجيال الناشئة من الطلاب والباحثين العرب هو إشراكه كبار الشعراء العرب في برنامج مكتبة الكونغرس: “أرشيف الأدب العالمي المسجل”، وهو برنامج تسجل فيه قراءات شعرية وأدبية لكبار الأدباء والشعراء بأصواتهم الحية، وتحفظ للمستقبل، وقد تبقى مئات السنين مصدراً أولياً لدراسة الشعر والأدب عامة.
ومن الأعمال البارزة التي قام بها الدكتور جورج عطية هو ما يمكن مقارنته بالدور الذي كان معداً للندوة اللبنانية أن تلعبه محلياً في لبنان، على صعيد الحوار بين التيارات الفكرية والأدبية والسياسية السائدة في حينه. فوضع برنامجاً لندوة من أجل الحوار بين قادة من أهل الفكر والأدب في بلادنا ومثلهم من المفكرين والأدباء الغربيين، لا سيما الأميركيين، فنظم العديد من المؤتمرات والمحاضرات والمعارض في هذا المجال، وكانت تتناول أبرز القضايا التي تهم الطرفين، وغرضها تعزيز المزيد من الفهم والتفهم بين الشرق والغرب. ومن أبرز هذه النشاطات مؤتمر “الحضارة العربية والحضارة الأميركية”. ولا يقلّ عنه أهمية ما عقد من مؤتمرات حول الذكرى المئوية لجبران خليل جبران، ومؤتمر تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين، ومؤتمر الكتاب في العالم الإسلامي. وكانت هذه كلها في أجواء لم تكن الصورة فيها عن إسهام العرب ولبنان غير صورة الحرب واللجوء والتشرّد. ولا يخفى أنّ مثل هذه النشاطات كانت مصدراً لعدد من الكتب والتأليف التي ستظلّ تلعب دوراً هاماً في مجال التأريخ والبحث العلمي في ميادين العلوم الإنسانية.
وفي غمرة كلّ ذلك، لم يغفل الدكتور جورج ما له من دور في المجال الأكاديمي، فظلّ حتى سنة 1980 استاذاً ملحقاً في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، وشارك في العديد من المؤتمرات العلمية في بلدان كثيرة، منها إيران، والمكسيك، والأردن، والمغرب، وانكلترة، والولايات المتحدة، وأسهم فيها بدراسات حول مواضيع تاريخية وفكرية وأدبية كثيرة. وكان عضوا فاعلاً في المجلس الاستشاري لمجلة الشرق الأوسط، وعضواً في المجلس الاستشاري لمعهد الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون، وفي مؤسسة “الفرقان للتراث الاسلامي” في لندن، وفي جمعيات علمية تعنى بشؤون الشرق الاوسط.
وبفضل هذه النشاطات، اكتسب الدكتور جورج عطية مكانة بارزة بين زملائه من المفكرين والباحثين، والعاملين في مجال الحفاظ على الموروثات المدونة، فأطلق عليه الكثيرون منهم لقب: “حافظ التراث العربي في أميركا”. وهو كان أديباً وكاتباً ومؤرّخاً، ومن العلماء المهاجرين الذين لم تقطع الغربة صلتهم بالوطن الأمّ.