الأولوية لحقوق الناس…
} أحمد بهجة*
قد تحتاج دول عديدة إلى سنوات طويلة حتى تشهد التطورات التي يشهدها لبنان خلال أيام معدودة، على كلّ المستويات وبشكل خاص في السياسة والقضاء والاقتصاد.
وها نحن في عزّ البرد والصقيع نطوي أسبوعاً حارّاً جداً، حيث في السياسة أقفل باب الترشيح للانتخابات النيابية المقرّرة في 15 أيار المقبل على 1043 مرشحاً، وانطلقت عملية تشكيل اللوائح في مهلة تنتهي في 4 نيسان المقبل، بينما تنتهي مهلة سحب الترشيحات في 31 آذار الحالي.
وفي القضاء حصلت تطورات هامة جداً تتعلق بالقطاع المصرفي الذي ظهرت إلى العلن أزمته الكبيرة منذ نحو ثلاث سنوات، لكنه بالفعل مأزوم قبل ذلك بكثير ولكن كان القيّمون عليه يخفون أمراضه بمسكّنات من هنا وبهندسات بهلوانية من هناك!
وتجلّت هذه التطورات في ناحيتين أساسيتين الأولى بقرار المدّعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون بتوقيف رجا سلامة، شقيق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. والثانية بقرار القاضية مريانا عناني الحجز على كلّ موجودات الفرع الرئيسي لفرنسبنك في الحمرا وفرع المصرف نفسه في بدارو.
(في هذا السياق، ومن دون اتخاذ أيّ موقف أمام حرمة الموت، لا بدّ من تسجيل حادثة وفاة المدير العام لشركة مكتف للصيرفة ميشال مكتف، إثر إصابته بنوبة قلبية في فاريا، علماً أنّ القاضية كانت قد ادّعت على مكتف وشركته في العام الفائت، إضافةً إلى «الحاكم» سلامة، ورئيس مجلس إدارة مصرف «سوسيتيه جنرال» أنطون صحناوي، بجرم تبييض الأموال، في قضية شحن الدولار إلى الخارج. وقد رأت عون وقتها «أنّ أفعال المتّهمين أدّت إلى هدم الاقتصاد الوطني»).
أما القرارات القضائية بحق المصارف، لا سيما قرار توقيف رجا سلامة واستدعاء رياض سلامة إلى التحقيق اليوم الاثنين، فقد أثارت ردود فعل واستنفار عام من قبل طبقة مصرفية وسياسية لا تتورّع عن حماية بعضها البعض، حيث أنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بعد اجتماعه في بعبدا مع رئيسي الجمهورية ومجلس النواب، دعا إلى جلسة لمجلس الوزراء صباح السبت الفائت، ودعا إليها أيضاً رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود ومدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات ورئيس هيئة التفتيش القضائي، وذلك للبحث في ما أسماه ميقاتي «الأساليب الشعبوية والبوليسية في مسار التحقيقات».
لكن ميقاتي صُدِمَ أولاً بعدم حضور القضاة لجلسة مجلس الوزراء الاستثنائية صباح السبت، ثم فوجئ خلال الجلسة بكلام واضح لوزير العمل الدكتور مصطفى بيرم قال فيه: «هناك شبهة لدى الرأي العام في أنّ الحكومة تحرّكت لحماية المصارف ولم تتحرّك من أجل المودعين وحقوق الناس»، مشيراً إلى أنّ المعالجة يجب أن تطاول معالجة الأسباب المنتجة للأزمة، وأوّلها حماية حقوق الناس والمودعين الذين تعرّضوا لسوء ائتمان ولا شأن لهم بأن يتحمّلوا وزر ما حصل بين المصارف ومصرف لبنان والسياسيين».
وأيّد وزير السياحة وليد نصار زميله وزير العمل، بما يعني أنّ تهديد ميقاتي بالاستقالة إذا تمّ توقيف «الحاكم» لم يفعل فعله ولم يؤدّ إلى جرّ مجلس الوزراء للسير في طرح ميقاتي الذي يريد وضع حدّ لقرارات القضاء بحق المصارف!
ولذلك، انتهت جلسة مجلس الوزراء إلى استعادة قرار سابق بتكليف وزير العدل بالسعي لإيجاد المخرج المناسب الذي يحفظ استقلالية السلطة القضائية وفي الوقت نفسه التأكيد على أولوية استعادة الناس حقوقهم وودائعهم، وقد بدا واضحاً أنّ ميقاتي لم يكن راضياً عن نتيجة الجلسة من خلال العصبية التي ظهر بها أمام الإعلام بعد الجلسة، وخاصة حين أجاب بـ «نعم» رداً على سؤال عن احتمال إقالة القضاة الذين رفضوا تلبية دعوته لهم لحضور جلسة مجلس الوزراء.
المهمّ الآن هو حقوق الناس وكيفية استعادتها… هناك مَن يطرح أن يتمّ استغلال فترة الانتخابات النيابية والضغط على كلّ المرشحين لحمل لواء الدفاع عن هذه الحقوق، ليس فقط بالشعارات إنما بطروحات عملية قابلة للتنفيذ. وهناك مَن يقترح تكثيف الدعاوى القضائية ضدّ المصارف واستصدار المزيد من الأحكام القضائية لمصلحة أكبر عدد ممكن من المودعين، وبالتالي وضع المصارف ومَن معهم من السياسيين أمام وقائع جديدة لا مهرب منها.
الأزمة واضحة، والقانون أيضاً واضح جداً، ولا يمكن السماح لجمعية المصارف بأخذ المودعين والموظفين الذين وطّنوا رواتبهم في البنوك رهائن إذا اتخذ أيّ قاض قراراً لم يعجب هذا المصرف أو ذاك.
وإذا قلبنا المعادلة نجد أنّ المصارف ستلجأ إلى القوانين نفسها لحماية حقوقها، بمعنى إذا تخلّف أيّ مقترض عن تسديد عدد من سندات الدين المتوجب عليه للمصرف، ألا يذهب هذا المصرف إلى القضاء لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتحصيل حقه وصولاً إلى تنفيذ الحجز على أملاك الشخص الذي لم يسدّد دينه للمصرف في الموعد المحدّد، وهذا بالضبط ما فعله بعض المودعين ويجب أن يفعله جميع المدعين لحفظ حقوقهم تمهيداً لتحصيلها تباعاً.
أما عن قضية «الحاكم» المطلوب وشقيقه الموقوف فيجب ألا يقف أيّ سياسي أو مسؤول في الدولة في طريق تطبيق القوانين، خاصة أنّ رجا سلامة أدلى باعترافات تدينه وتدين شقيقه، وهي اعترافات موثقة بالأدلة والمستندات الموجودة بحوزة القاضية عون، ولم يعد هناك أيّ مجال للنكران أو التهرّب من المسؤولية، وبالتالي لا مجال أبداً للإفلات من العقاب…