هل السرعة معيار نجاح موسكو عسكرياً؟
ناصر قنديل
– منذ بدء العملية العسكرية الروسية في مواجهة تقدم حلف الناتو نحو الحدود الروسية، وتحول أوكرانيا إلى ساحة حرب، وتحول الشعب الأوكراني والجيش الأوكراني والاقتصاد الأوكراني إلى وقود لحرب ميؤوس منها، وتفاديها وقف على قبول صيغة الحياد بدلاً من وهم الانضمام إلى حلف الناتو الذي تقوم عقيدته على إعلان روسيا عدواً أول، ويعني انضمام أوكرانيا إليه اعلان حرب على روسيا، وخطة الناتو تقوم على خوض حرب إعلامية على جبهتين بدلاً من الحرب العسكرية التي يخشى خوضها، الجبهة الأولى هي إقناع الأوكرانيين بمواصلة القتال وحدهم رغم تخلّي الناتو عنهم، والتوهم بأن العقوبات المفروضة على روسيا من جهة، والأسلحة والأموال التي يتم شحنها عبر الحدود إلى أوكرانيا من جهة أخرى، تكفيان لإفشال العملية العسكرية الروسية. أما الجبهة الثانية فهي موجهة للعالم وللأوكرانيين معاً، ومضمونها إقناع الرأي العام بأن معيار النجاح والفشل، ليس التقدم في الجغرافيا، ولا تجاوز تأثير العقوبات، بل عدم تحقيق ذلك بسرعة، ومعيار السرعة وضعت له معادلة النجاح بدخول كييف في يومين أو ثلاثة، وهو أمر يحتاج لإثبات واقعيته قبل تسويقه، لكن تسويقه هو المهم، للمضي قدماً في الحديث عن الفشل، ومن بعده الدخول في حرب نفسية مضمونها تفسير الفشل، الذي لم يقع إلا في الإعلام، لكنه صار حقيقة في وعي الكثيرين، وصار ممكناً نقلهم للتساؤل عن السبب وتقديم سردية مناسبة للتلاعب بعقولهم حول سبب وقوع الفشل.
– القطبة المخفيّة كلها في جملة نسبت زوراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي قال نبدأ عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، فأضيفت إليها من مكان مجهول معلوم كلمة سريعة، وسرت كالنار في الهشيم، وصار الحديث عن سريعة قبل أي شيء آخر، ثم صارت السريعة بيومين او ثلاثة، فهل توقع العملية السريعة واقعي بالأساس، كي يقبل الاستنتاج بأن تسويقها لم يكن ضمن خطة مبرمجة لخوض حرب إفشال العملية العسكرية في عقول الرأي العام من بوابة هذه الفرضية المستحيلة، حتى لو نجحت في الواقع الميداني، والمعيار للقياس هو ببساطة، حيث واجهت أميركا التي تعتبر أنها قوة عظمى أشد قوة من روسيا، خصماً مشابهاً أقل قوة من أوكرانيا، وأخذ الزمن الذي احتاجته أميركا لفرض سيطرتها قياساً لما يحدث مع روسيا، التي امتلأت الصحف والتقارير الغربية والقنوات الفضائية الأجنبية والعربية بتحليلات الخبراء، والضباط المتقاعدين الفاشلين عسكرياً، ليبيعوا نظرية الفشل، ويدخلوا في استصناع أسباب مفترضة له، مستنسخة عما كتبه خبراء البنتاغون، مرة بالحديث عن مشاكل لوجستية، وأخرى بالحديث عن ضعف السيطرة والقيادة، وثالثة بالحديث عن نقص المحروقات، ورابعة عن ضعف استخباري، ودائماً بفعل المقاومة الأوكرانية، وصولاً لآخر المبتكرات بالحديث عن نقص في عدد الجنود الروس اللازمين للفوز بالنجاح، وكلها عناصر يمكن قبول نقاشها اذا ثبتت القطبة المخفية الأصلية، وهي أن العملية العسكرية الروسية فشلت، وأن معيار الفشل هو السرعة؟
– بالقياس أمامنا تجربة أميركية في حرب يوغوسلافيا، عام 1999، بعد عشر سنوات حرب أهلية مدمّرة، لبلد مساحته لا تعادل 15% من مساحة أوكرانيا، وعدد سكانها كذلك 15% من عدد سكان أوكرانيا، وليس لها حدود مع أي دعم تتلقاه، وحكومة معزولة سياسياً داخل أوروبا وخارجها، وفي زمن السطوة الأميركية الأحادية على العالم، وفي ظل غطاء نسبيّ من قرار أممي بفرض وقف النار وحماية المدنيين، ولم تحسم معركة بلغراد العاصمة الصربية واليوغوسلافية أساساً، إلا بعد 78 يوماً من القصف المدمّر، ما يعني ان الخبرة الأميركية اذا قامت على اعتبار روسيا بالقدرة الأميركية ذاتها وبوضعيتها ذاتها في ظل الأحادية، واعتبرت أن أوكرانيا في ظروف دولية وداخلية مشابهة لظروف صربيا، وحصرت المقارنة بالمساحة وعدد السكان، فإن المدة التي يجب أن تحاسب روسيا على أساسها في حسم معركة كييف يجب أن تكون ستة اضعاف الـ 78 يوماً، اي سنة ونصف، وهناك تجربة أخرى خاضتها أميركا وهي في ذروة سطوتها، بغزو أفغانستان والعراق، ونجحت خلالها بدخول كابول بعد شهرين وبغداد بعد عشرين يوماً، وأعلن الرئيس الأميركي نهاية العملية العسكرية في العراق بعد 40 يوماً، وكانت الحصيلة الاعتراف الأميركي بعد أقل من سنة عن فشل ذريع، وعن تحول العراق الى مستنقع يغرق فيه الأميركيون، وصولاً للقبول بالانسحاب دون تحقيق الهدف، أي بناء نظام حكم حليف لواشنطن، او كما قال الرئيس جو بايدن عن مبررات الانسحاب من أفغانستان بعد عشرين عاماً، رغم إعلان النجاح بعد عشرين يوماً، أنه لو بقينا عشرين عاماً اخرى فلن يتغير شيء، سنفشل، لكننا سندفع آلافاً أخرى من الضحايا وتريلينوات أخرى من الأموال.
– بالمقارنة يبدو واضحاً أن الأميركيين بخوضهم حربا إعلامية تحت عنوان «السرعة معيار النجاح»، يريدون عبرها للروس مصيراً لعمليتهم مشابهاً لمصير العمليتين الأميركيتين في العراق وأفغانستان، الغرق حتى الأذنين بالفشل، وسلوك الطريق الذي سلكه الأميركيون، وهو البحث عن نصر سريع عنوانه احتلال العاصمة وتنصيب حكم بديل تابع، والدخول في مواجهة مقاومة شعبية تنطلق من رفض الاحتلال، بينما يحرص الروس على خوض عملية عسكرية تنتهي باتفاق سياسي مع الحكم الأوكراني الحالي، تعرف موسكو أنه لن يحدث إلا إذا اقتنع الغرب بلا جدوى حملاتهم المالية والإعلامية ومساندتهم العسكرية للحكومة الأوكرانية، لجعل روسيا تقع في فخ القطبة المخفية، وتتحول الى قوة احتلال لا تعرف ماذا تفعل بالدولة التي تحتلها، ولا كيف تحمي نظاماً تابعاً تقيمه فيها، وموسكو تعرف كيف تدير عناصر اليأس الغربي، انطلاقاً من النجاح في احتواء الصدمة الأولى للعقوبات، وتمتين تحالفاتها مع الصين وإيران، ومواصلة التقدم الثابت والهادئ في الجغرافيا الأوكرانية، مع الحذر الشديد من التورط في أعمال قتل جماعيّ للمدنيين، ومواصلة السعي التفاوضي لجعل خيار الحياد الأوكراني نموذجاً لمناطق عازلة تفصل روسيا عن حلف الناتو منعاً للاحتكاكات التي يمكن أن تؤدي لنشوب حرب عالمية.