من يومياتي
إنّ بعضَ الظَّن إثم، وكلَّ الظُّلم جريمة، فما بالكم بالظَّن في الأعراض والكرامات.
نمرُّ بالكثير من التجارب التي نتعرّض فيها للظّلم والألم، فنتوجّه صوبَ اللّه ونوكّله بإنصافنا، إلّا أنّ اللّه في المقابل يختبرنا ليعلم ماذا سنفعل حين تفرض علينا الظروفُ الشكَّ والظن في الآخر، لذلك نصبح أكثر حساسية في التعامل مع الآخرين وفي تصفية النيات تجاههم حتى وإن كانت كلُّ البراهين والأدلّة تشير بأصابعها نحوهم. فموقف بسيط بسيط جدًّا يجعلك تعيد كل حساباتك.
في طفولتي لم أتعلّم المواجهة من أجل الدفاع عن حقّي ولا عن نفسي، وكانت دائماً فكرة وجود اللّه تقنعني بأنّ اللّه يرى ويحاسب وتحثّني على الانتظار ولم يخيّب اللّه ظنّي يومًا، وآمنتُ أنّ ملامحي تبوح بكلّ ما في داخلي وقادرة على إخبارهم بما تعجز عنه الكلمات، كما كنت غالبًا ما ألجأ إلى الكتابة لإيماني بأنّها تنصفني، ولإدراكي أنها هدية اللّه لي ليعوّضني عن الأخت التي حُرمت منها.
النفس أمّارة بالشك والظن وخاصة، الظن بالمرأة المطلّقة، حيث إن الكثيرات منهن ولأسباب لا أريد الخوض فيها شوّهن صورة المرأة فصارت جميع النساء متشابهات من حيث السلوك الأخلاقي، إلا تلك المرأة التي تغلق الباب على نفسها وطموحاتها وأحلامها، فيراها المجتمع على أنها «بنت مستورة»، بينما يضع مئات الاحتمالات السيئة لتلك المنفتحة على المجتمع والحياة والطموح، وهنا تنتابني فكرة دائمة تتردد في نفسي وتزيد من ثقتي بها وتوقد في داخلي رغبة التحدي ألا وهي:
المرأة الصادقة النقية والطاهرة ليست تلك المرأة التي فُرض عليها الوفاء لأن الباب مقفل إنّما تلك التي قسّت الحياة عظام أنوثتها، فتجدها تفتح الأبواب وتواجه الذئاب بكل جرأة وثقة، لأنها تعلم وتدرك جيّدا أن لا ذئب قادر على نهش عفّتها طالما أنّها وفيّة لنفسها قبل أن تكون وفيّة لمبدأ وأخلاق ودين.
الوفاء للنفس قرار وقناعة، ومهما تنوّعت وتلوّنت الإغراءات فلا يمكن لامرأة عرفت قدر نفسها أن تسمح لنفسها بالسقوط. ورغم كل ذلك، تتساوى النقية والعاهرة في مخيّلة الظن والظلم.
كل هذا الكلام هو تمهيد بسيط لموقف حصل معي منذ أيام ارادني فيه اللّه أن أستعير مشاعر أحدهم وأعلم كم هو صعب أن تكون ظالماً ومظلومًا وربّما لأكتب هذا النصّ.
في أحد الفنادق التي نزلت فيها لمدّة طويلة بانتظار إنهاء بعض الإجراءات المهنية، لاحظت اختفاء بعض أغراضي إلّا أنني لم أعِر الأمر اهتمامًا، فأنا أدرك مدى فوضويتي في لحظات ابتعادي من أمي، ولا صوت يلاحقني في يومي «ضبي ثيابك يا نانا.. رتبي اغراضك يا نانا»…. وكنت أنتظر لحظة حزم أمتعتي لأتفقد ما ضاع مني آملة إيجاده، إلا أنني اكتشفت اختفاء المزيد، وأول ما خطر في بالي هو عامل النظافة الذي ينتظر خروجي من غرفتي يومياً ليلقي علي الابتسامة والتحية والتمنيات بيوم جميل. شعرت بالألم لأنني لا أريد لظني أن يصدق، إلا أنه لا احتمال آخر سوى أن أكون مجنونة.
استشرت أحد الأشخاص الذين أثق بهم فنصحني بإخبار الإدارة بما حصل دون اتهام أحد وهذا ما فعلته.
أول خطوة قاموا بها هي استدعاء ذلك العامل اللطيف، وحين رأيته قادمًا صوبنا بابتسامته الدافئة دمعت عيناي وقلت للمدير مباشرة إنني ربما أكون مخطئة وأقنعت نفسي بذلك. ولكن ما هي إلا لحظات حتى تذكرت شيئًا آخر لم ألاحظ وجوده بين أغراضي، وكنت قد استخدمته قبل يوم فعدت إلى المدير وأخبرته بذلك ليستدعي مجددا العامل اللطيف ولكنني ما إن رأيته حتى كذّبت ظني وقلت:
«لا يمكن ذلك… لا بد أنني مخطئة».
جلست في صالة الاستقبال وصرت أبكي والجميع ينظر إليّ باستغراب فسألني المدير:
«هل أضعتِ شيئاً آخر»؟
قلت له:
لا.. بل أبكي لأنني أشعر بالذنب، فلا يمكن لتلك الملامح أن تكذب أو تخون أو تسرق.
أجابني:
نعم، هو يعمل منذ مدة طويلة معي وكلّما انتقلت إلى فندق أستدعيه للعمل فيه، فهو صادق وأمين جداً..
قلت له:
وحدها الملامح لا يُمكن أن تكذب… أرجوك قم باستدعائه أريد أن اعتذر منه.
ابتسم المدير ولبّى طلبي مباشرة. وحين وصل العامل اللطيف ابتسمتُ وركضت إليه فأخبره المدير أنني أريد الاعتذار منه.
فأجاب باستغراب:
لماذا؟؟؟
قاطعته قبل أن يسبقني المدير في الإجابة قائلة:
لأنني أتعبتك معي كثيرًا اليوم وأنت لطيف جدًّا. كما أريد أن اشكرك لأنك كنت يوميا تترك لي قهوة إضافية وعبوات ماء إضافية وتحرص على أن توفر لي الأشياء التي أحبها.
ومن ثم اقتربت منه لأعطيه بعض المال الذي أعلم جيداً أنه لا يمكنه أن يطفئ الدمعة في عينيه، فرفض أخذه حتى أشار له المدير بالقبول فمدّ يده بخجل مبتسمًا أجمل ابتسامة رأيتها في حياتي، ممّا أشعل بكائي مرة أخرى وجعلني ألوم نفسي لأنها تسرّعت بالظن.
لم أنم في تلك الليلة، فابتسامته لم تفارق مخيّلتي وما زلت حتى الآن أجد في كل يوم شيئاً من أغراضي الضائعة، وأكتم أنفاس الظنون.
إنّ بعضَ الظن إثم، وكلَّ الظلم جريمة، فما بالكم بالظن في الأعراض والكرامات!!!