أولى

فلسطين والغبار الروسيّ الأوكرانيّ

 سعادة مصطفى أرشيد _

في الهزيع الأخير من أيام الدولة الأموية، حصل الاشتباك الأول بين مشرقنا وشعوب الخزر الوثنيّة، وكانت الدولة الأموية قد سبق لها أن حققت انتصارات محدودة في المواجهات معها، ولكن هشاشة وضعها الداخلي وتفاعل عوامل الثورة العباسية ضدّها، أوقفت تلك الاشتباكات الأمر الذي استفادت منه شعوب الخزر بإعطائها الوقت اللازم لتشكيل دولة مركزية.

بحكم الجغرافيا، وقعت دولة الخزر بين قطبي القوة في عالم ذلك الزمن، دولة الخلاقة الإسلامية في بغداد، والدولة الرومانية الشرقية المسيحية ـ الأرثوذكسية في القسطنطينية، الأولى تحاصرها من الشرق والجنوب، والثانية تحاصرها من الشمال والغرب، ولم يكن لديانتهم الوثنية وثقافتهم الرعوية البدائية ما يمنحهم القدرة على الصمود مقابل ثقافات أعرق وديانات أكثر تطوراً، فكان أن قرّروا التمايز عن الفريقين باعتناق جماعي لليهودية واتخاذها ديناً قومياً. انهارت دولتهم في منتصف القرن الثاني عشر فانطلقوا مهاجرين إلى الشمال والغرب باتجاه روسيا القديمة، ومنها تسرّبوا إلى بولندا وبلدان شرق أوروبا السلافية، وألمانيا، حيث طوّروا ثقافة جديدة لهم لا تتطابق مع المجتمعات التي عاشوا فيها لرغبتهم الدائمة بالانعزال والتمايز، وطوّروا لغة خاصة كانت مزيجاً من لغتهم القديمة مع مفردات آرامية توراتية وأخرى سلافية وأطلقوا عليها اسم لغة الايدش، وأنتج حاخاماتهم مدارس وإخوانيات صوفية داخل العباءة اليهودية منها الطريقة الحسيدية.

 وفي حين عاشوا في روسيا على هامش المجتمعات فإنهم في بولندا وبلدان أخرى عاشوا في أحيائهم الخاصة (الغيتو) المغلقة فكرياً واجتماعياً وأسواراً، هؤلاء هم اليهود الاشكيناز الذين أطلق عليهم اسحق دويتشر اسم القبيلة الثالثة عشرة، إذ أنهم لا ينتمون سلالياً لا للعرق السامي ولا لقبائل اليهود الاثنتي عشرة، والتي تعود كلّ منها إلى (سبط) ابن من أبناء يعقوب، يختلف هؤلاء عن اليهود السفارديين الذين عاشوا في الأندلس، وهاجروا منها فراراً من محاكم التفتيش إلى المغرب وأراضي الدولة العثمانية، في حين فضلت قلة منهم الهجرة إلى غرب فرنسا وبلجيكيا وهولندا وانجلترا ولاحقاً إلى جنوب أفريقيا. أما اليهود الروس فقد أخذت أوضاعهم تسوء في مجتمعاتهم منذ عام 1820، وذلك عقب اتهامهم بقتل أحد كبار بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية، ثم جرائم أخرى لا نعرف إنْ كانت صحيحة أم  ملفقة وجزء من حملة منظمة ضدّهم، أدّى ذلك إلى هجرتهم إلى غرب أوروبا، الأمر الذي أزعج يهودها الذين تزدهر أحوالهم في تلك المجتمعات، ورأوا في هؤلاء المهاجرين فقراء، ثقلاء، متسوّلين ومتخلفين عنهم، فسعوا للخلاص منهم بتهجيرهم إلى العالم الجديد، حيث تعيش اليوم أكبر التجمعات اليهودية (ربما تفوق في عددها من يعيشون في فلسطين المحتلة) ثم إلى فلسطين عندما تطلبت الحاجة وازدادت أهمية المشرق وخطورته سواء بسبب ترهّل الدولة العثمانية والطموحات الغربية الاستعمارية بوراثتها، وهو ما أطلق عليه اسم المسألة الشرقية حيناً ورجل أوروبا المريض حيناً آخر، كذلك بسبب مشاريع محمد على باشا الطموحة واثر شقّ قناة السويس.

وصلت جموع متفاوتة العدد من هؤلاء اليهود إلى فلسطين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم بدفعات أكثر مع مشاريع وإنشاء صناديق لتمويل شراء الأراضي من قبل الأثرياء اليهود أمثال هيرش وروتشيلد ومونتفيوري، المنزعجين من جيرة فقرائهم، ثم بزيادة أكبر بعد وصول الحزب الوطني الاشتراكي (النازي) إلى الحكم في ألمانيا ونظريات التفوّق الآري واعتقادهم بأنّ اليهود كانوا وراء ما لحق بهم من هزائم عسكرية وخسائر صناعية، ثم ما لحق بمجتمعهم من انحلال.

تعرّض اليهود للاضطهاد سواء في ألمانيا أو في الأراضي التي احتلتها جيوش ألمانيا في بولندا وروسيا، وفق المبالغات اليهودية أنه قد قتل في تلك الفترة على يد الألمان 5 ملايين يهودي في ألمانيا وأكثر من مليون في روسيا وأوكرانيا، ومنذ أعلن عن قيام الدولة اليهودية عام 1948، حتى اليوم تعاقب على رئاسة حكوماتها اليهود ذوو الأصول الروسية ـ الأوكرانية أو البولندية.

بعد عام 1948، قامت الوكالة اليهودية والدولة (إسرائيل) باستدراج اليهود السفارديين من العالم العربي وخاصة شمال أفريقيا والعراق واليمن وحيثما وُجد يهودي، وأسكنتهم في أحياء عشوائية ليصبحوا مواطنيها من الدرجة الثانية. وأما آخر الهجرات الكبيرة فكانت هي الآتية من روسيا وأوكرانيا قبيل ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث وصل إلى فلسطين المحتلة ما يقارب مليون مهاجر، بعضهم من غير اليهود ومنهم من الفاسدين أصحاب المليارات القذرة التي حصدوها في فترة الفوضى التي حصلت عقب انهيار الدولة السوفياتية، وهؤلاء ممن لا تستطيع الدول الغربية استيعابهم في مجتمعاتها لانخراطهم في عوالم سفلية، مثل هؤلاء طبقة وطائفة جديدة في الكيان (الإسرائيلي)، وكانت لهم أحزابهم ونواديهم وتجمعاتهم واستثماراتهم، ويمثل هؤلاء اليوم ما بين 20-25% من اليهود في (إسرائيل)، هذا وحسب ما يرى المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري انّ عدد اليهود في العالم كان قد بلغ عشية الحرب العالمية الثانية 16,5 مليون يهودي، 15 مليوناً منهم من الاشكيناز أو من القبيلة الثالثة عشرة، وفق تصنيفات ونظرية اسحق دويتشر.

دعتنا الحرب الروسية ـ الأوكرانية للعودة بعيداً في التاريخ وذلك في محاولة لفهم المستقبل، فهذه الحرب عالمية بنتائجها التي ستمسّ الجميع، ولكن لفلسطين خصوصية وحصة أكبر في النتائج المتوقعة، وذلك لانخراط (إسرائيل) الخفي والمعلن بالأزمة الأوكرانية وإدارتها…

مما لا ريب فيه، أنّ للحرب الروسية ـ الأوكرانية تأثيرها على المسألة الفلسطينية، وذلك التأثير لا يزال في أوّل إشاراته، التي لا تعطي الوضوح الكامل، ولكن قد تكون منطلقاً لتقدير طبيعة تطور المسألة، استطاعت (إسرائيل) أن تتصرف بحذر منذ بدء الأزمة، وذلك بعدم اتخاذ موقف واضح بالانحياز لأحد الفريقين، وإنما طرحت وساطة، لم تقبل بها روسيا، وربما لم تجد استحساناً من أوكرانيا التي كانت تفترض الشراكة  في الحرب مع (إسرائيل). علاقاتها مع روسية مهمة، وتفاهماتها الحالية حول قواعد العمل في السماء السورية ذات حساسية مفرطة، كذلك ستحاول التفاهم مع روسيا حول إيران ما بعد توقيع الاتفاق النووي، ولكن علاقاتها بواشنطن استراتيجية بل أكثر.

وحسب وزير خارجيتها: نحن نكون حيث واشنطن تكون، ومن المعروف أنّ الرئيس الأوكراني وحكومته وأجهزته العسكرية والأمنية هم امتداد «إسرائيلي»، حسب ما يتبجّح كلّ من (الإسرائيلي) والأوكراني على حدّ سواء.

منذ ظهور بوادر الأزمة عملت كامل أجهزة الدولة (إسرائيل) والمجتمع، داخليا على إدارتها بطريقة (crisis management )  وبما يعود عليها بالفائدة السياسية والمالية وبما يعيد رسم صورة أخلاقية ـ إنسانية افتقدتها، فمنذ مطلع العام تشكلت خلية أزمة من مستوى رفيع، رصدت الموازنات المالية وأعدّت الخطط اللوجستية لإجلاء اليهود الأوكران ونقلهم إلى فلسطين المحتلة عند بدء الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وحسب التقارير الصادرة عن خلية الأزمة المذكورة فإنها تشكلت من رئاسة الحكومة ووزارات الخارجية والدفاع والاستيطان وشؤون الشتات إضافة إلى الوكالة اليهودية. إما على الصعيد الخارجي فقد تجلى ذلك بزيارة المستشار الألماني إلى تل أبيب ثم بالزيارة الخاطفة لرئيس الحكومة إلى موسكو، الساعية للتأكيد أنّ حكومته ليست طرفاً في الأزمة ولتثبيت الاتفاق حول قواعد الاشتباك في سورية، وعودته عن طريق برلين لإطلاع المستشار الألماني على مجريات حواره مع بوتين.

رأت (إسرائيل) في الأزمة الأوكرانية رافعتها وسبيلها لإعادة التموضع دولياً، وأنّ الأزمة تمنحها الفرصة لترميم بعض خسائرها، فالجنسية المزدوجة للرئيس الأوكراني ولأركان حكمه تجعل منها طرفاً فاعلاً وقوياً، وهو ما دعا المستشار الألماني للاعتقاد بذلك وزيارة تل أبيب، فـ (إسرائيل) لها مصالح مشتركة مع روسيا ثم أنها تضمّ ما يقارب مليوني مواطن من تلك الأصول، وفى الوقت ذاته ستكون أقدر من غيرها على ضبط السلوك الأوكراني لما لها من دالة عليه. تريد إعادة تظهير صورة قديمة ومتهالكة تعيد تشكيل صورة الضحية والدولة المضطهدة من جيرانها الأقوياء، تضمّ شعباً مستضعفاً عانى من ويلات كثيرة، وأنّ إخوانهم من اليهود الأوكران مهدّدون بسبب الأعمال القتالية، وهم يملكون الحقّ الرباني بالعودة إلى أرض موعودة، وهذا ما يتطابق مع قانون العودة اليهودي الذي يمنح كلّ يهودي في العالم أو منحدر من نسل يهودي العودة إلى أرض الميعاد (إسرائيل) والحصول على المواطنة من فوره.

ولكن «إسرائيل» رأت في المقابل ما يزعجها في هذه الأزمة، وخاصة العقوبات المفروضة على روسيا لاحتلالها أرض الغير، وهي التي تحتلّ أراضي أكثر من غير واحد، أراضي سورية ولبنانية وأردنية وفلسطينية، وهناك ما يُقال عالمياً حول المعايير المزدوجة، والطريقة الانتقائية في تطبيق قواعد القانون الدولي، هذه المقارنات تزعجها، إضافة الى قضايا الفصل العنصري الذي تتفوّق به على روسيا انْ أخذنا بذرائع الغرب.

تتزامن الأزمة الأوكرانية بأزمات وتتسبّب في أزمات أخرى. هذا ونحن في فلسطين على أبواب شهر رمضان، الذي أصبح مؤخراً شهر المواجهات مع الاحتلال، وذلك لأسباب إيمانية، ثم لما يتراكم من عوامل دافعه للاشتباك، توقيع الاتفاق النووي بين طهران والغرب مسألة تمثل أزمة كبرى لـ (إسرائيل)، فهي تمنح إيران وتحالفاتها كثيراً من القوة، ثم إنّ إيران تبدي رغبة، أو عدم خوف من الاشتباك مع (إسرائيل)، الأمر الذي بدا واضحاً في ضربة أربيل مؤخراً، وفي اعتراف طهران للمرة الأولى باستشهاد عناصر لها في سورية جراء القصف (الإسرائيلي) على قواعدها في سورية، وكان في اعترافها هذا التزام منها بالردّ. أما في لبنان المقبل على انتخابات برلمانية شاقة، تغيب بها مراكز قوى تاركة فراغاً محيّراً، وتتعثر مسألة ترسيم الحدود البحرية مع  (إسرائيل)، مما يجعل من الاشتباك وارداً، غزة التي لا تزال تعاني من ظروف معيشية صعبة، لم تحصد نتائج نجاحها في حرب سيف القدس قبل سنه كاملة ـ في رمضان الماضي، فالحصار لا زال يُراوح مكانه فيما إعادة الإعمار لم تحدث، ولم يفِ الوسيط بما تعهّد به، وإذا كان ذلك ما تزامن من أزمات، فما تسبّب هو الارتفاع الكبير في الأسعار، فأسعار الحديد والألومينيوم ستوقف كثيراً من أعمال البناء، وترفع من عدد العاطلين عن العمل سواء في الضفة وغزة، أو في الداخل الفلسطيني، أسعار الخبز والمواد الأساسية شهدت ارتفاعاً عالياً كبيراً ومرشحة لارتفاعات أكير في القريب، فيما يتمّ الحديث عن تعثر السلطة الفلسطينية في قدرتها على دفع رواتب الموظفين كاملة، تحاول (إسرائيل) القيام بخطوات وقائية لا أظنها ستكون فاعلة أمام إيران وحلفائها من جانب، أو أمام تردّي الأوضاع المعيشية في الضفة الغربية وغزة، ولم تجد أكثر من إصدار تصاريح عمل إضافية للعمال في غزة والضفة، وإلغاء بعض أوامر إخلاء بيوت عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح بالقدس، وذلك مسعاها التلفيقي لاحتواء أيّ تصعيد محتمل، وهذا التصعيد أقلق أطرافاً من خارج معادلة الثنائي الفلسطيني (الإسرائيلي) ما دعا الملك عبد الله الثاني للإعلان عن زيارة سيقوم بها إلى رام الله تهدف إلى احتواء التصعيد.

إدارة الأزمة الأوكرانية (إسرائيلياً)، تقضي بالعمل على استقدام ربع مليون يهودي أوكراني، وتمارس ضغوطاً دبلوماسية على الدول المرشحة لاستقبال الهاربين الأوكران من لظى الحرب وذلك لعدم استقبال اليهود منهم، بحيث لا يجدون ملاذاً إلا في الهجرة إلى فلسطين المحتلة، ليزيدوا من أعداد اليهود في الدولة  اليهودية، تحسّباً للمسألة الديمغرافية التي تؤرقهم، وللحلول محلّ اليهود الذين يهاجرون عكسياً إلى الغرب، وتريد دفع عملية الاستيطان في الضفة الغربية أولاً وإلى شمال النقب وحوض نهر الأردن ثانياً، وهي المناطق التي يأنف كثيرون من العيش بها، وهي تعطي للمسألة بعداً أخلاقياً إنسانياً للاستيطان وإسكان ضحايا هاربين من الموت في بلاد بعيدة ومنحهم ملجأ على أرض الفلسطينيين، وهم من اعتبرهم الرئيس الأوكراني في خطابه أمام الكنيست ضحايا هولوكست روسي، وهو كرم بالغ ولكن من جيوب الآخرين، وقد أعلن رسمياً عن الشروع بتلزيم عطاءات بناء أعداد كبيرة من الوحدات السكنية في مستوطنات الضفة الغربية لإسكان هؤلاء القادمين.

كشفت الأزمة الأوكرانية بما لا يدع مجالاً للشك، انّ روسيا كانت قد استعدّت لمثل هذه اللحظة منذ زمن سابق، فاستطاعت بناء علاقات، وتشبيك مصالح مع دول كثيرة عبر العالم ومنها ما كان حتى زمن قريب محسوباً على الولايات المتحدة، وكشفت الأزمة أيضاً مصداقية واشنطن غير المصداقة، وتراجع مكانتها، بدا ذلك واضحاً في الموقف «الإسرائيلي» الذي درس ولا بدّ بجدية الأداء الأميركي تجاه أوكرانيا وتبخر وعودها بالدعم والوقوف الحاسم إلى جانبها، وبدا ذلك في مواقف خليجية لطالما لعبت أدواراً ذيلية لواشنطن، هذا ما يجب ان يلاحظه صاحب القرار الفلسطيني، لكي يدرك أنّ العالم يتغيّر وأنّ دوام الحال من المحال، وانّ واشنطن لن تكون لاعباً أوحد.

أمام كلّ ما تقدّم من مهدّدات لوضعنا الفلسطيني الهش والمضطرب، يجب أن يمثل ذلك فرصة حقيقية لإعمال العقل ووضع الأولويات الفلسطينية قيد التنفيذ، ومنها الاستعداد لموجة خطيرة من الاستيطان، ولمرحلة شدّ على البطون بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية وتأثيرها على سلطة تعتاش من الدعم المالي الخارجي وتفوح جراء أدائها قصص فساد وسوء إدارة، وبشكل ملحّ العمل على إنهاء الانقسام الذي فقد مبرّراته حتى الواهية منها، أمام حدة الوقائع لا بدّ من تغليب التناقض الرئيسي على كلّ التناقضات الفرعية.

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ  جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى