ما الخطة العسكريّة الروسيّة التي اعتمدت في أوكرانيا… ونتائجها؟
العميد د. أمين محمد حطيط _
خطّطت أميركا وخلفها الغرب الأوروبي لاستدراج روسيا الى أوكرانيا وإغراقها في مستنقع لا تستطيع الخروج منه أو لا تخرج منه إلا بعد إنهاكها والقضاء على اقتصادها لا بل والنيل من وحدتها وتفكيكها الى دول متناحرة تضيع بين حدودها المكانة النووية استراتيجياً وتفقد حق الفيتو في مجلس الأمن دولياً وهما الميزتان اللتان كانتا للاتحاد السوفياتي وورثتهما روسيا بعد تفككه، واليوم تريد أميركا شطبهما من الكينونة الروسية بشكل نهائي. كلّ ذلك تقدم عليه أميركا من أجل إسقاط المثلث الاستراتيجي المشرقيّ الذي يرفض ويعمل من أجل الإجهاز النهائي على فكرة الأحادية القطبية التي حلمت بها أميركا وخاضت من أجل إرسائها الحروب المتتالية والمتنوّعة، فكرة لا تزال تدغدغ أحلامها رغم ما واجهته من عوائق وما مُنيت صاحبتها من هزائم.
وحتى تنفذ خطتها لجأت أميركا الى تدابير استفزازية دفعت اليها أوكرانيا الدولة الجار لروسيا ذات الـ ٤٥ مليون نسمة (ما يعادل ربع سكان روسيا) وذات المساحة التي تتجاوز الـ 600 الف كلم2، ومنذ العام 2014 بدأت أميركا بخطتها الجهنمية ضدّ روسيا بالانقلاب الذي أطاح بحكومة أوكرانية وطنية تقيم علاقات حسن جوار طبيعية مع روسيا، انقلاب جاء الى الحكم بدمية بيد الغرب وفئة من القوميين والنازيين الجدد المعبّأين بعميق الكراهية ضدّ روسيا، ما فرض على روسيا اتخاذ الوضع الدفاعي عن مصالحها ومستقبلها والأهم حاضراً عن أمنها القومي وأمن الأشخاص الروس او الذين هم من أصل روسي ويقيمون في أوكرانيا بصفتهم مواطنين بعد ان ضمتّ القيادة السوفياتية السابقة ارضاً روسية الى أوكرانيا لتشكل منها دولة في الاتحاد السوفياتي احتفظت بالأرض الروسية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.
حاولت روسيا جاهدة التفلت مما ينصب لها في أوكرانيا من كمائن او فخاخ، وعرضت بأكثر من طريقة ووسيلة وأسلوب حلولاً لما تخشاه خاصة على صعيد الأمن القومي وامن الأشخاص الروس، وكان الرفض الأميركي بصلافة وتعنّت هو الردّ دائماً وكان هذا طبيعياً من أميركا التي تخطط بالشكل الجهنّمي ضدّ روسيا، ووصلت الأمور في نهاية المطاف الى وضع روسيا أمام خيارين: اما السكوت على الاستفزاز وتآكل الموقع والقدرات والوصول الى يوم لن يكون بعيداً تضطر فيه للدفاع عن الدولة على أبواب موسكو وتتذكر يومها الغزو الغربي لها أكثر من مرة وما خلفه من قتل ودمار، او المبادرة بعمل عسكري استباقي ووقائي يقيها من هذه الأخطار دون أن تدخل النار أرض الدولة الروسية. بين الأمرين اختارت الحلّ الثاني رغم ما فيه، من مخاطر وما ينطوي عليه من الوقوع في الفخ الأميركي، ويحقق رغبة أميركا في اقتياد روسيا الى حرب استنزاف قاتلة،
بيد انّ روسيا ومع اختيارها للعمل العسكري النوعي الاستباقي، الذي اضطرت عليه كخيار بين السيّئ والأسوأ. واختارت السيّئ، بادرت الى وضع خطط تنفيذية تجنبها قدر الإمكان او الى الحدّ الأقصى الانزلاق الى حرب استنزاف أو عمليات قتل المدنيين كما تشتهي أميركا ومن أجل ذلك اختارت للتنفيذ استراتيجية الضغط المتدرّج الذي أملت منها حمل القيادة الأوكرانية على التفاوض تحت وطأة الميدان والضغط العسكري فيه من أجل الاستجابة للمطالب الروسية ذات الصلة بالأمن القومي الروسي وأمن الأشخاص الروس.
وفي التنفيذ ترجمت هذه الاستراتيجية عسكرياً بما يؤدي الى تدمير القدرات العسكرية الأوكرانية وتجفيف مصادر القوة، ونزع الانياب والأظافر وحرمان أوكرانيا من الإمكانات العسكرية الذاتية او التي تمنح لها من الخارج لتتمكن من إدارة حرب استنزاف ناجحة وطويلة الأمد تحقق لأميركا اهدافها. ومن أجل ذلك التزمت ونفذت روسيا ميدانياً بما يلي:
ـ الاقتصاد بالقوى مع تخصيص جزء بسيط من قواتها المسلحة وقواتها العسكرية وإناطة مهمة العملية العسكرية النوعية به، ولذلك لم تزجّ في الميدان وتدفع عبر الحدود أكثر من ١/١٣ من قواتها المقاتلة وهي نسبة متدنية جداً كما يعلم العسكريون لا يكون من شأنها ان ترهق الجيش مهما طال أمد العمليات.
ـ التخطيط للحرب الطويلة غير المرهقة حتى لا يكون طول المدة أداة ضغط عكسية على روسيا.
ـ التوجه لتدمير القدرات العسكرية الأوكرانية شاملاً الأسلحة والذخائر في الميدان وفي المستودعات وفي مصانع الإنتاج بما يحرم الجيش الأوكراني من الوسائل العسكرية المحلية التي تلزمه للقتال والمواجهة والصمود.
ـ اعتماد استراتيجية الحصار للإنهاك النفسي والميداني الذي يفرغ المدن من سكانها ما يقود الى إسقاطها في نهاية المطاف مع تجنب حرب الشوارع ومعارك الالتحام وخسائرها او قتل المدنيين في بيوتهم، وفي هذه النقطة قلبت روسيا الاتجاه حيث تجنّبت حرب الاستنزاف ودفعت الخصم اليها وهو برأينا إبداع روسي.
ـ الاندفاع البدئيّ السريع للعملية عبر الحدود مع تعدّد محاور العمل (٣ محاور رئيسية ومحورين ثانويين) بما يحقق الصدمة والرعب ويقود الى الانهيار الإدراكي والإخراج من الميدان دون قتال لأنّ هدف روسيا لم يكن القتل بل التحييد عن القتال،
ـ رسم الخطوط الحمراء الصارمة بوجه التدخل الغربي الأطلسي وتجلى ذلك بـ ٣ مواقف الأول التلويح بالسلاح النووي الرادع، والثاني اعتبار قوافل الإمداد العسكري أهدافاً مشروعة أينما كانت، والثالث اعتبار فتح مراكز التدريب والتحشيد وتجنيد الأجانب عملاً يستوجب التدخل لتدميرها.
ـ الارتقاء التصاعدي في استعمال الاسلحة بشكل يحقق مصالح روسية مركبة من عملانية ولوجستية واستراتيجية مع التقيّد بقاعدة “التناسب والضرورة” حسب المستطاع والحاجة والإمكان، ومن هنا نفهم كيف لجأت روسيا الى استعمال صاروخ “كنجال” ذي الرأس عالي الدقة والخارق للتحصينات من أجل تدمير مستودعات الأسلحة والذخائر، او إطلاق صاروخ باستون من قطعة بحرية في البحر الأسود ليدمّر أهدافاً في البر الأوكراني رغم أنه في الاصل معدّ للاستعمال ضدّ السفن، ففي هذه النقطة يبدو انّ روسيا تتجه الى عرض واستعراض القوة والقدرات العسكرية العالية المستوى وتأكيد قرارها الاستراتيجي بالمضيّ حتى النهاية لتحقيق أهدافها مهما استلزم ذلك من بذل.
ـ الإمساك بورقة المصانع البيولوجية والجرثومية التي أقامتها أميركا في أوكرانيا والتلويح بفضح الخطط الأميركية بصددها.
وبالنتيجة وفي اقلّ من شهر تمكنت روسيا من تحييد اكثر من ٧٥٪ من الجيش الأوكراني وفرض الحصار على ٣ مدن رئيسية منها العاصمة كييف كما وإحكام حصار بحري كامل على أوكرانيا فحرمتها من التجارة عبر البحرين الأسود وآزوف، كما أنها دمّرت المصانع العسكرية في معظم أوكرانيا ووضعت اليد على قاعدتين نوويتين أساسيتين في تشيرنوبيل وزاباروجيا متجنبة الى الحدّ الأقصى المواجهات الميدانية المباشرة ومعتمدة بشكل رئيسي على القدرات النارية براً وجواً وبحراً وعلى قدرات الصدم المناسبة.
وعلى هذا الأساس نستطيع القول من الوجهة العسكرية إنّ روسيا التي تعمل مع هوامش أمان كثيرة بعيداً عن ضغط الوقت، تجنّبت حرب الاستنزاف لا بل دفعت الخصم اليها وصاغت أسس معركتها بشكل يمكنها من تحقيق أهدافها بشكل مؤكد ما يعني أنّ أوكرانيا ستكون ميدان فشل إضافي للسياسة الأميركية التي حصدت فشلاً مركباً والأخطر فيه هو الفشل الاستراتيجي المتمثل بسقوط نهائي للأحادية القطبية.