متي تنتهي «الحرب الباردة» على المرأة؟!
} سارة السهيل
قدّمت الدراما العربية المرأة العاملة والمثقفة قديماً كنموذج لعدم الاعتناء بأنوثتها وبيتها، همّها فقط التفوّق بالعمل، لكنها تفشل في إقامة علاقة إنسانية ناجحة بالتوازي داخل المؤسسة الأسرية خاصة مع الزوج، فهي إما طبيبة أو مديرة أو كاتبة أو فنانة، تقدّم بصورة سلبية نمطية لا تغري الرجل العربي لكي يقدم على الزواج بها.
مع تطور المفاهيم عادت هذه الدراما لتقدّم نموذجاً آخر للمرأة المثقفة، الأكثر أنوثة وجمالاً وتنويراً عقلياً وسعة معرفية، فشكلت بذلك قوة جذب للرجال المثقفين، ومع حاجة الرجل للمظهر الاجتماعي البراق، اتجه صوب هذا النموذج للمرأة المثقفة والناجحة لتكتمل عنده الوجاهة الاجتماعية في واقعه المعاش، ولكن الكثير من هؤلاء الرجال لم يتحمّل الإضاءات التي أضافتها زوجاتهم، سواء كانت إعلامية أو طبيبة أو كاتبة وغيرها من مجالات العمل، التي أثبتت المرأة فيها كفاءة ونجومية. وسرعان ما دبّت» الغيرة» في قلب الزوج من العلاقات الاجتماعية التي حققتها زوجته في ميدان عملها، فانقلب السحر على الساحر وأفاق الرجل الشرقي على واقع، انّ زوجته أكثر تألقاً منه، فأخذ يضيّق عليها الخناق بالمنع من المشاركة في أي حقل ثقافي أو اجتماعي أو طبي أو تربوي، أو حضور الندوات والمؤتمرات التي تمثل لها ضرورة لصقل موهبتها والتطوّر في ميدان عملها، فتحوّلت الكثير من البيوت الى جحيم لا يُطاق بين رغبة الزوج في تقييد حرية زوجته بالعمل، وبين اشتعال الحماس لدى الزوجة في استكمال نجاحاتها وتحقيق مشروع طموحاتها العملية والأدبية.
للأسف فإنّ الواقع العربي يضجّ بالتناحر الزوجي بسبب هذه الإشكالية المتمثلة بنجاح المرأة بعملها، و»غيرة» الرجل الشرقي سواء كان زوجاً أو أخاً، أو أباً، تتحكم بهم أفكاراً قديمة، لم تعد ملائمة لمعطيات العصر الحالي، ولسخرية القدر، فإنّ أغلب زيجات المثقفات تنتهي اما بالنزاع الذي لا ينتهي، أو بخضوع الزوجة لأوامر زوجها بترك العمل أو الحدّ من الطموح فيخسرن أنفسهنّ ويعشنَ حياة يائسة بائسة، وتتحول «جنة» الزوجية الى جحيم لا يُطاق، وتتهم الزوجة بأنها السبب في هذا الجحيم بعدما حرمها الزوج من تحقيق ذاتها وأحلامها، فأخذت تصبّ جامّ غضبها لاشعورياً عليه، والكلّ في هذا السباق خاسر بطبيعة الحال. هناك الكثير من التجارب لسيدات فشلنَ في حياتهنّ الأسرية والعملية، بسبب تحطيم الزوج لنفسياتهنّ والتقليل من ذكائهنّ واحتقار مواهبهنّ، ورغم ذلك فإنّ سيدات المجتمع المخملي لا يشعرنَ بهذه المآسي، وينتقدونني عندما ألقي حجراً لتحريك المياه الراكدة في هذه القضية، إلا أنني تعرّفت على الكثير من النماذج الواقعية لسيدات عانينَ من غيرة أزواجهنّ من نجاحاتهنّ وشهرتهنّ وحب المجتمع لهنّ، في مجالات تخصصاتهنّ وإبداعهنّ.
يمكن القول بأنّ الكثير من النساء يواجهنَ «حرباً باردة»، إما من الأخ الأكبر أو الزوج، وأحياناً من الأب، لثني المرأة عن استكمال مشروع نجاحها المهني، وقد تأخذ هذه الحرب أشكالاً من العنف بالضرب، والاتهام والشك، وطمس طموح الكثيرات منهنّ، خاصة في الأرياف والمناطق النائية، وقد يكون أحياناً بتشويه «السمعة» في المدن، او هجر الزوج لزوجته، بل وكيدها بالزواج من أخرى نكاية فيها.
فإذا كانت هذه الزوجة كاتبة أو طبيبة أو عالمة فيزياء أو كيمياء ويتطلب عملها حضور ندوات ومؤتمرات، والمشاركة في الحياة الثقافية لاكتساب مزيد من الخبرات، ولتسويق منتجها الفكري والعلمي، فإنها تواجِه مشكلات جمّة من الزوج الذي يكيل لها النقد والتجريح وينتقص من «حضورها» في البيت ويقلب عليها طاولة الاتهامات،
وقد سمعت من إحدى الصديقات بأنّ زوجها يقوم بابتزازها بالمقارنة مع غيرها، إنْ حضرَت مؤتمراً لماذا لا تسمح له بمحادثة الفتيات العابثات! أو إنْ أرسلت تقارير العمل الى مديرها، ولماذا لا تسمح له، بأن يراسل فتيات «الفيسبوك» و»التيك توك»! أو إذا هي أصرّت على حضور ندوة معينة، فلماذا لا تقبل أن يذهب هو للسهر!؟ أو إذا كانت تريد النشر عن منتوجها الفكري، فلماذا لا ينشر هو مثلاً صوره وهو» يسبح على الشاطئ!؟
فعندما سمعت منها هذه المقارنات حفزتني على خوض معركة الدفاع عن المرأة الزوجة بسلاحي الوحيد وهو القلم،
فكيف يمكن أن تبتز المرأة الشريفة بمقايضتها بترك عملها او تسمح بانحراف زوجها؟ مع أنّ هذه السيدة لا تغيب عن المنزل سوى ساعتي عمَل بمعنى أنها غير مقصّرة في بيتها أبداً، هذا أولاً، وغير منحرفة أخلاقياً ثانياً، وتتعامل مع الناس بناءً على العمل وفي إطار محترم ثالثاً، وهذا التعامل مطلوب وضروري، من أجل استكمال نجاح مسيرتها وتحقيق طموحها ومستقبلها، وقد تعبت من أجله كثيراً،
فكيف تكون المقارنة صحيحة بين العمل الجادّ والمحترم مقابل العبث والخروج عن الأخلاقيات؟
وتكون حجة الزوج أحياناً، كلام المجتمع والأقاويل والإشاعات مع أنّ الشجرة المثمرة هي فقط التي ترمى بالحجارة، ومن هو الذي عمل شيئاً مؤثراً ومفيداً في حياته، ولم تشمله الأقاويل والشائعات، حتى السيدات والرجال الذين لم يعملوا طوال حياتهم تعرّضوا للتنمّر والشائعات والأقاويل فما بالك بالناجحين والمعروفين؟ وذلك لأسباب تشمل» الغيرة» والتنافس المهني، وأحياناً مجرد انعدام الضمير وفراغ الناس.
إنه الظلم الذي يلحق بالمرأة الشرقية، إنْ أرادت أن تنجح في هذا المجتمع المريض.
وبالعودة إلى الزوج الذي تزوج من امرأة ناجحة نسأله، اذا كان لا يحتمل أن تكون زوجته ناجحة وطموحة فلماذا أقدم على الزواج منها وهو يعلم شهرتها ونجاحاتها؟ ولماذا يعمد الى طمس مكتسباتها بعد الزواج والقضاء على أحلامها علناً أو خفية، للحؤول دون استكمال مشروع حياتها العملية؟ للأسف الشديد فإنّ الكثير من النساء المبدعات المحترمات يتعرّضنَ لتشويه صورتهنّ ظلماً وعدواناً وهذا أمر لم يعد مقبولاً.
قد يكون الرجل محقاً في «غيرته» على زوجته إذا كانت تعمل في مجال تكتسب منه شهرتها من خلال جسدها أو شكلها، أو استخدامها ايّ شيء يشير الى كونها أنثى، وغيرها من المهن التي لا تأبه للعيب الاجتماعي وهنا يحق للزوج ان يقيّد حركة زوجته حفاظاً على «كرامته ورجولته».
أما المرأة المحترمة التي تعتمد على ثقافتها وخبراتها العلمية او العملية في مجال تخصّصها لماذا تتعرّض للمضايقات الأسرية والتقييد من حركتها وتطلق عليها سهام النقد الاجتماعي اللاواعي، لمجرد انها تسعى جاهدة لتحقيق طموحاتها.
أعرف الكثير من الكاتبات اللواتي يجدنَ معارضات شديدة من داخل عائلاتهنّ لعملهنّ، وهذه المضايقات تصدر عن الأب والأخ ثم لاحقاً الزوج، وتُحارب عندما تشارك بندوة أو ترسل مقالاً، لنشر أعمالها، او تلتقي بالمجتمع الثقافي وتبدي رأيها بقضية معينة.
إحدى صديقاتي حديثة الزواج تعاني الأمرّين من زوجها بمنعه لها من المشاركة في الحياة الثقافية، حيث يطالبها بعدم حضور ندوات أو ورش عمل وما شابه، فاذا استجابت لطلبه، فلن يحضر لها أحد توقيع كتاب، او حتى مناقشته بندوة خاصة، ولن تجد منفذاً للظهور. هذه الصديقة وغيرها تعاني من ثقافة ذكورية، تخشى على المرأة من ان يتحرّش بها السفهاء، وانّ حمايتها من الأوغاد يعني ملازمتها لبيتها، دونما تفاعل إنساني خارجي؟ أنا أعتقد انّ حمايتها هي إثباتها لنجاحها واحترامها في ذات الوقت، لأنّ المحترمة لا يمكن ان يتجرأ عليها أحد، الا قلة نادرة أشبّهها بالذباب الذي لا يميّز بأن يقف على رأس العالِم الفقيه او على رأس السفيه هو لا يميّز بين المرأة الصالحة وغيرها.
ولكن في المقابل المرأة القوية تعرف كيف تحمي نفسها جيداً، ولا أملك من الردّ علي الذرائع البالية الفكر، سوى اعتقادي بأنّ المرأة المحترمة التي اختارها الزوج بعد تيقنه من أخلاقها، لن تقبل بأيّ حال ان يتحرّش بها السفهاء، فالمرأة الشريفة تصون كرامتها وعفتها أينما رحلت وحلت.
وأزمة رجلنا الشرقي الذي نحترمه ونجله انه لا يزال يبحث عن صورة جدته، كنموذج للمرأة صاحبة الفضيلة والأخلاق الكريمة، بينما هو قد يجد في زوجته هذه الفضائل ولكنها مكتسية ثياب العصرنة، لأنّ القيم والفضائل الأخلاقية ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الحوادث والدهور، فمحلها القلب والتنشئة السليمة.
أظنّ أننا في أشدّ الحاجة الى تغيير هذه الثقافة الذكورية التي تضع المرأة المبدعة في أيّ حقل معرفي وثقافي في سجن أوهام الحماية الاجتماعية من أوغاد البشر، بينما هي في حقيقتها تعكس عدم ثقة الزوج في نفسه، بعد ان نضجت تجربة زوجته وشعّ إبداعها وحققت به نجومية أخافت الزوج من ان يفقد قدرته في السيطرة النفسية على زوجته.
ولعلّي هنا أشفق احياناً على الرجل الشرقي لأنه ورث ميراثاً مريراً جعله مهما تثقّف وتعلّم، لا يجد في المرأة إلا جانبها الأنثوي الذي يجب أن يحافظ عليه، دون إدراكه لوعي المرأة في الحفاظ على نفسها وأسرتها.
أظنّ أننا في أشدّ الحاجة الى تغيير هذه المفاهيم في ما يدرسه الأبناء في المدارس والجامعات، وما تبثه وسائل الإعلام عن علاقات غير سوية، والاستفادة من المؤسسات الثقافية في تقديم النماذج النسوية المحترمة التي سجل التاريخ صفحاتها ليستعيد الرجل ثقته بنفسه وبالمرأة،
وهنا أدعو الرجال للتحرّر من سجن خوفهم الداخلي، فليس بقهر الزوجة وتحطيم نجاحها تحافظ على أسرتك، بل بالحب والتفاهم والاحترام المتبادل تصان عروش الأسر، وبالثقة المبتادلة بين الزوجين لا مجال لطرف فاسد أو مفسد.