رجع الصدى للقاء النقب يُسمع في ضواحي «تل أبيب»
سعادة مصطفى أرشيد*
برغم الانشغالات الكثيفة والاستثنائية للدبلوماسية الأميركية، إلا أنّ وزير خارجيتها قد وجد وقتاً مستقطعاً لزيارة بلادنا والمشاركة في الاجتماع الذي ضمّ أربعة وزراء خارجية عرب إضافة لـ «الداعي» (الإسرائيلي) في صحراء النقب، فيما وزراء خارجية عرب آخرين قد غابوا بأجسادهم، ولكنهم قد حضروا بالمعنى السياسي وإنْ غابوا عن مائدة الاجتماعات كما وزراء قطر وعُمان والسودان والسعودية والأردن وفلسطين، كان لغياب هؤلاء أسباب متنوّعة منها الأسباب الإعلامية أو الترتيبات الداخلية أو أدوار مؤقتة إقليمية، مع استثناء واحد وهو المتعلق بالحضور الفلسطيني، وهو ما سيعود إليه المقال لاحقاً.
لهذا الاجتماع دواعيه المختلفة، ولكن أكثرها أهمية وإلحاحاً هو التوقيع القريب عالي الاحتمال للاتفاق النووي مع إيران، والذي تزداد أهميته يوماً بعد يوم للأمن القومي الأميركي وأمن حلف الناتو بسبب الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وما لحقها من ارتفاع في أسعار النفط والغاز… هذا الاتفاق بالغ الأهمية لواشنطن يسبّب لها متاعب مع حلفائها الذين يشعرون بقلق بالغ جراء توقيع الاتفاق وما سيحدثه من أثر على موازين القوى بين محور المقاومة والحلف الأميركي، الذي تضعضعت ثقته بنفسه وبراعيه الكبير. فكان هذا الاجتماع وبحضور الوزير الأميركي بهدف طمأنه الحلفاء، وتنسيق سياساتهم الأمنية والدفاعية. وما الحضور الأميركي إلا لإعطاء مزيد من الطمأنينة لهم، ومزيد من المصداقية لراعيهم الأميركي الذي تآكلت بعض الثقة به مؤخراً، وخاصة (للإسرائيلي) الذي يتوَّج اليوم زعيماً لتحالف عربي، ناتو شرق أوسطي، فأيّ ضمان تريد «إسرائيل» أكثر من ذلك؟
من دواعي اجتماع النقب ما يتهدّد دولاً مشاركة في الاجتماع من قلاقل داخلية، وكأنها هزات ارتدادية، ولكنها قد تكون عنيفة للأزمة الأوكرانية وتأثيرها على إمدادات الغذاء، فروسيا وأوكرانيا تنتجان أكثر من ثلث الإنتاج العالمي من القمح والشعير والأعلاف، فيما تمثل هذه الإمدادات قرابة ثلاثة أرباع ما يستهلكه العالم العربي. يطلق المصريون على الخبز اسم (عيش) ربما لعلاقته باستمرار الحياة، وأيّ عبث بجودته وأسعاره تكون سبباً من أسباب الثورة والاحتجاج العنيف. ونستذكر هنا ثورة الخبز في مصر الساداتية، إذ رفعت الحكومة أسعار الخبز في 17 كانون الأول 1977، وخلال ساعات كان الملايين في الشوارع يرفعون شعارات إسقاط النظام، ويدمّرون ويحرقون أقسام الشرطة ومباني الدولة، الأمر الذي اضطر الرئيس السادات للتدخل وإلغاء القرارات، أما في نيسان 1989، فعندما رفعت حكومة زيد الرفاعي في الأردن الدعم عن مواد أساسية منها الخبز قامت البلد ولم تقعد؛ الأمر الذي اضطر الملك حسين لقطع زيارة رسمية كان يقوم بها إلى واشنطن والعودة من فوره وإقالة الحكومة وإلغاء القرارات وإجراء إصلاحات واسعة في النظام السياسيّ وعلى رأسها إعادة الحياة البرلمانية التي كانت معطلة منذ عام 1967.
سوف تجد حكومات عديدة نفسها أمام هذا المأزق الخطير عند نفاد مخزوناتها المتواضعة من القمح وستكون عاجزة عن مواجهة استحقاق كهذا بأدائها الهزيل وفسادها المستشري، لذلك تحتاج إلى المساعدة الملحة من الراعي الأميركي الكبير، ولكلّ شيء ثمنه، ومن الثمن المقدّم والمستعجل المشاركة في اجتماع النقب.
من الدواعي، هو احتمالات انفجار الأوضاع في فلسطين واحتمالات اشتراك أطراف فاعلة فيها عند حدّ معيّن، وكان من مقدماتها الرمضانية عملية الدهس والطعن في النقب، ثم عملية الخضيرة، وما جرى أول أمس الثلاثاء في ضواحي تل أبيب، يتزامن كلّ ذلك مع شهر رمضان هذه السنة مع عيد الفصح اليهودي، وكما في كلّ رمضان يتوافد إلى المسجد الأقصى عشرات ألوف المصلين والمرابطين فيه، فيما سيجتاح ألوف من المستوطنين اليهود المحتفلين بفصحهم المسجد لإقامة شعائرهم الدينية وفي الزمان والمكان ذاتهما، مما سيحدث اشتباكات ستكون في الغالب ذات طابع عنيف، فيما تشارك فيها غزة على طريقتها، أيّ بصواريخها وبالوناتها الحارقة، دموية وعنف هذه الاشتباكات سينعكسان لا على الوضع الفلسطيني فحسب وإنما على المنطقة بأسرها.
عود على بدء، وفي الإجابة على تساؤل عن الغياب الفلسطيني عن لقاء النقب، فقد صرّح وزير الخارجية (الإسرائيلي) عن أمنياته بأن يكون الوزير الفلسطيني حاضراً في اللقاءات المستقبلية، في ظني أنّ ما حال دون دعوته هذه المرة هو الخلاف في وجهات النظر داخل الحكومة الإسرائيلية تجاه التعاطي مع السلطة الفلسطينية، إذ ترى وجهة النظر الأقوى والتي يمثلها رئيس الحكومة نفتالي بينيت، أنّ السلطة ليست إلا حكماً ذاتياً محدوداً، والحكم الذاتي عليه أن يتبع المركز وهو «إسرائيل» في هذه الحالة. وهو ليس لديه ما يعطيه للسلطة الفلسطينية أكثر من تسهيلات اقتصادية وتصاريح عمال وبطاقات v.i.p لوجهائها، ووظيفة التسهيلات الاقتصادية هي للحفاظ على الأمن، أو للربط بين الأمن والاقتصاد. فالاحتقان الاقتصادي هو من أهمّ عوامل القلق الأمني وفقاً لوجهة النظر هذه، من هنا لا يرى رئيس الحكومة نفتالي بينيت أي دور إقليمي للفلسطيني يؤهّله لحضور مؤتمر كهذا. فالحكم الذاتي غير مستقلّ وإنما تابع لمركزه الذي يمثله في المستويات الأعلى.
استكمالاً لقراءة رؤية نفتالي بينيت هذه، نعرفها من الزيارة السريعة لوزير الخارجية الأميركي بلينكن لرام الله وهي على هامش حضوره لقاء النقب، إذ صرّح عقب لقائه الرئيس الفلسطيني بجمله سريعة ذكر فيها حلّ الدولتين، ولكنه أسهب في الحديث عن جهود بلاده وبحثها عن السبل الكفيلة بتحسين جودة ونوعية حياة الفلسطيني، وتقديم مزيد من الدعم للقطاع الخاص وللمشاريع الصغيرة وللأسر الفقيرة، واضعاً المسألة في إطارها الإغاثي الإنساني وبعيداً عن السياسة. هكذا تتضح قراءة الانسجام في الموقف الأميركي «الإسرائيلي»، فلا شيء أكثر من الحكم الذاتي المحدود إلا التسهيلات الاقتصادية في سياقاتها المعززة للهدوء والأمن.
يعرف الأدب العربي قصة سنمار والحجر، وسنمار هذا مهندس بنى قصراً عظيماً للنعمان بن المنذر، ووضع في مكان سري من القصر حجراً إنْ تحرك من مكانه، ينهار القصر، ويبدو أنّ الشاب ضياء حمارشة يعرف مكان هذا الحجر في الرؤية (الإسرائيلية) ـ الأميركية التي تبدو متماسكة في ظاهرها والرابطة بين التسهيلات والأمن، رؤية هذا الشاب وأمثاله تربط الأمن بالوطن وتحريره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ