أوكرانيا الخاصرة الهشة للاتحاد المتماسك…
د. هالة الأسعد
سنوات طوال تؤرق القضية الأوكرانية روسيا وقيادتها وخلال هذه السنوات كان العمل في أوجه لاستهداف روسيا من البوابة الأوكرانية، ناهيك عن الغزو الغربي الأوروبي ثقافياً واقتصادياً واستقطاب الأوكرانيين المتعصبين الذين لا تروق لهم روسيا. اذ وصل الغرب وعلى رأسهم أميركا لما يريدونه هناك مما استفز الروس وأيقظ الدب من سباته القلق.
لا بدّ من قراءة تاريخية دقيقة وثيقة للموقف هناك بعيداً عن بروباغندا الطرفين لكن بالاحتكام للعقل والمنطق نرى تماماً أنّ الكلّ يعرف أنّ حرباً في أوكرانيا ستنطلق لا محالة وساسة العالم المخضرمين يعرفون ذلك جيداً، ولمّح بعض القادة لمثل هذه المواضيع في أكثر من موقف، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا كانوا على علم كامل ويعدّون العدة لمحاصرة روسيا بصواريخ الناتو، وسمعنا كثيراً امتعاض الروس من هذا الحراك ومحاولتهم تفادي هذه الكارثة بالحوار لكن ضعف الرواية الإعلامية الروسية والانغلاق الروسي الثقافي وضعف الإعلام الروسي والماكينة الإعلامية الروسية في مواجهة الدعاية الأوروبية والأميركية والآلاف من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وانتشارها وسيطرتها على العالم كله، زد على ذلك تبني الكثير من دول العالم للرواية الغربية والتغريد في سربها.
تاريخ العلاقات الأوكرانية الروسية
مع انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال أوكرانيا عن روسيا وما تبع ذلك من مفاوضات لتسليم السلاح النووي وثلث المنظومة السوفياتية النووية في أوكرانيا هي للاتحاد الروسي وخشيةً من روسيا بوقوع أوكرانيا بيد الغرب والتي بدأ الغزو الثقافي الغربي واستمالة الشعب نحو أوروبا ونعيمها وديمقراطيتها وحريتها المزعومة وفعلاً كانت الأماني الأميركية تتحقق شيئاً فشيئاً بطريقة ناعمة وتقدم خجول حتى اسقاط حليف موسكو، اضافة للتطورات التي شهدتها أوكرانيا وأهمها استعادة القرم وانفصال دونباس بدعم روسي لحماية أمنها القومي.
استشاط الغرب غضباً وتحركت المشاعر التركية حيال القرم وبدأ فصل المؤامرات العلنية. أفلام غربية كثيرة تنبأت بحرب أوكرانيا والمسلسل التلفزيوني الأوكراني الذي كان بطله زيلينسكلي الذي كان بدوره الرئيس البطل الذي يخوض الحرب وينتصر وينقذ البلاد لم تكن نبوءة ولا صدفة بل خطة غربيةً محكمة تماماً للوصول إلى نقطة اللاعودة فإما انضمام أوكرانيا للناتو أو حرب مستعرة روسيّة تدمر أوكرانيا وتضعف روسية وتشغلها لعقدٍ من الزمن.
وصول زيلينسكي للحكم وانقياده للغرب كان خدمةً تاريخيةً للغرب فهو شاب غير ناضج سياسياً، ممثل كوميدي ناجح محبوب لمتابعيه، لكنه وصل بنتيجة الانتخابات إلى الرئاسة وهذا إنْ دلّ على شيء يدلّ على مستوى الضياع الثقافي والسياسي الذي وصل إليه الشعب في أوكرانيا التي كانت معروفة بساسة أذكياء من اليهود المتمرّسين لكن الثقافة الغربية الجوفاء وصناعة المجتمعات الفارغة المفككة وضرب الأفكار الوطنية والفكر السياسي الحقيقي بدعوات الديمقراطية والليبرالية واستقطاب الشعب بالرفاهية الغربية والديمقراطية المزعومة التي كان حُرم منها زمان الاتحاد السوفياتي أدى إلى ما نراه اليوم.
بينما تركيا منذ عام ٢٠١٦ لم يغمض لها جفن وسعت لتقاربٍ سياسي واقتصاديّ مع كييف ومؤخراً بدأت بسرية تامة جداً ومنذ ما يزيد على ٣ أعوام نقل إخوان مصر وسورية بالتواصل مع جمعية الرائد التي يرأسها سران عريفوف والذي يرأس الجمعية حالياً وكان يستقطب لها الشباب المسلم والعربي من الدارسين في أوكرانيا إلى صفوفها في خطوة لخلق نواةٍ لعمل جهاديّ محتمل هناك لضرب روسيا. مع أنه لا توجد تقارير إعلامية علنية تدعم هذه الرواية لكن وقائع انتقال المسلحين السوريين من فصائل المعارضة السورية للقتال هناك عبر تركيا يثبت تماماً هذه الادّعاءات، وانسحاب أميركا من الاتفاقيات المشتركة مع روسية وأهمّها منع انتشار الأسلحة النووية تعدّ مؤشرات مهمة على طموحات أميركا والناتو نشر درعها الصاروخي على أسوار روسيا وفي فنائها الخلفي على تحت عين وسمع الجميع ولقد قرأ بوتين الرسائل جيداً وأدرك محتواها بدقةٍ متناهية.
قصّ أجنحة روسية وسلخ حلفائها من الجيران
لعلنا تابعنا بدقة الحرب الأذربيجانية الأرمينية وقضية استعادة قرة باغ وهي أولى الخطوات الميدانية لتهديد روسيا، فاستقطاب تركيا و”إسرائيل” لأذربيجان وفكرة الخريطة التركية التي سُمّيت بالوطن التركي التي قدّمها أحد حلفاء أردوغان السياسيين هديةً له والتي وصلت حدودها لروسيا، تظهر أنّ هناك ما يتمّ طبخه في دهاليز السياسة الأوروبية والتي سارعت تركيا كشفه قبل أوانه وانضمام أذربيجان إلى الحلف التركي “الإسرائيلي” بعيداً عما يهوى الروس وباشنيان المرتمي بالحضن الأميركي خسر قضيةً وتاريخاً وحرباً وشرف أمةٍ ناضلت هناك، وتخلى عنه الأميركان وأسعفه الروس بوساطتهم الميدانية لكن حضور الروس لا يعني أنه حليف لهم وإنما مرغمٌ بعد تخلي الأميركان عنه وتسليمه لقمةً سائغة لأذربيجان وحليفها. لكنه لم يعتبر ولعلنا نراه قريباً في أنقرة لعقد اتفاقٍ مع تركيا نسمع همساته الخجولة هنا وهناك.
أما أذربيجان وأرمينيا وهما خارج دائرة الحلف الروسي. الخطوة التالية ضرب استقرار بيلاروسيا ومحاولات مدعومة غربياً لإسقاط رئيسها، لكن الحزم في التعامل وإدراك الساسة لحقيقة الموقف أخمد نار الاحتجاجات هناك وقد بدأت الحرب الإعلامية على الرئيس البيلاروسي ووصفه بالدكتاتور المستبدّ العميل لروسيا المعادي للديمقراطية الذي أرهب الشعب وقمع الحريات. لكن مع تأييدنا لظاهر القول هناك إلا أنّ خفايا وخلفيات ما حدث لا يعلمها الشارع البسيط الذي لا يعي مدى خطورة الموقف وكلّ المحاولات المعارضة كانت مدفوعةً بالعمالة الغربية التي لا تحمل نوايا وطنية قومية همها الوطن.
وفعلاً يقيّم الجميع زعيم بيلاروسيا بأنه دكتاتور لكنه جنّب بلاده مستقبل أوكرانيا التي تدفعها على مذبح الأحلام بالانضمام للناتو والاتحاد الأوروبي دفاعياً.
محاولة انقلاب العصابات الكازاخستانية وتخريبها الذي وأدته روسيا سريعاً في مهده كان دليلاً ثانياً على أنّ الغرب بدأ الحرب على روسيا بدون أن يطلق رصاصة واحدة من سلاحه وإنما الحرب كانت من كلاشينكوف إلى كلاشينكوف وفعلاً اظهرت نتائج الحال بعد هروب بعض رجال الأعمال المتورّطين بالأحداث إلى أوكرانيا واعترافهم بارتباطهم بفرنسا. وبعد هذه الخروقات في الخط الروسي باتت السياسة الغربية تشكل خطراً وجودياً حقيقياً لتجد روسيا نفسها وحيدة في مواجهة المحور الغربي وقدراته السياسية والإعلامية القذرة ويقف معها عسكرياً بعض التشكيلات البيلاروسية والشيشانية ويدعمها إعلامياً الصينيون والباكستانيون والهند بحذر والعملية الخاصة الأوكرانية فُرِضت على الروس بواقعية لأنه إما التسليم للأمر الواقع وهي فقدان أوكرانيا وتحولها لجزء من الناتو بعد أن كانت بالأمس القريب جزءاً من الخارطة السوفياتية أصبحت اليوم خنجراً غربياً أميركياً يدمي الشعب الروسي ويهدّد أمنه وهواءه ومستقبله ووجوده وحديث بعض الهواة السياسيين عن أنه على بوتين احترام إرادة الأوكران في اختيار مستقبل بلادهم وحلفائهم يتجاهل مدى الجهل السياسي الذي يسود المجتمع المسحور بالحضارة والرفاهية الأوروبية، وأحلام التحوّل لبلدٍ أوروبي ينطق بالإنكليزية ويذوب بالثقافة الغربية وتستضيف ملاهيه الليلية سهرات الأوروبيين وأموالهم ويسافر الأوكراني بلا قيود ولا سمات دخول إلى كلّ أنحاء أوروبا مروراً بروما وجنيف وبريطانيا وباريس. لقد أراد الأميركيون الحرب وجرّوا روسيا إليها لأنّ دول أوروبا سترتعب من القوة هناك والتي لا تقدر جيوش أوروبا منفردة مواجهتها، وهنا تترسخ التبعية لأميركا فيهرع الغرب للارتماء بالأعتاب الأميركية ذليلاً صاغراً يستجدي الحماية ويدفع الكثير لشراء السلاح الأميركي الثقيل لتقوية ترسانته والتخويف الدائم للغرب من الفزاعة الروسية حالها حال إيران ودول الخليج. لقد كان من الممكن أن لا تحدث الحرب أبداً بمجرد تعهّد أميركا بعدم دخول أوكرانيا للناتو لكنها لم تفعل عمداً لضمان نشوب الحرب هناك وتكبيل روسيا بسلة من العقوبات تدمّرها اقتصادياً وتعزز الحرب الباردة الثقيلة.
الحرب لم ولن تكون حلاً أبداً وكلّ الحروب خاسرة مهما كانت النتائج لكن لم يكن أمام بوتين سواها حلاً لضمان أمنه وأمن بلاده وسيتحمّل بوتين العزلة والعقوبات ومحاربة المرتزقة من أوروبا وسورية وبعض الدول الأخرى إضافة لجيش أوكرانيا وسيصل لحلّ يضمن أمنه وقد وصل الرجل في عمليته الخاصة إلى مرحلة اللاعودة فإما أن يدافع عن خياراته ورؤيته للأحداث على غرار الرئيس السوري ليثبت بعد سنوات مدى صحة موقفه، أو أن يُهزم إلى الأبد ويعيش العزلة والوحدة التي تعاني منها كثير من الدول… فلا تقوم بعدها للروس قائمة ويغرق العالم بمزيدٍ من الفوضى صاغراً ذليلاً عند أقدام أميركا والصهيونية العالمية. ولا نهاية قريبة لهذه الحرب لأنّ قوافل السلاح وحسابات المساعدات تتزايد ولا شيء سوى حرب ودماء وفاتورة من الدماء من الطرفين لكن الدفاع عن أمن البلاد يستحق الكثير فلو لم تكن الحرب اليوم لكانت على أبواب موسكو غداً ومسألة أسلحة الردع لم تعد تردع أحداً فقد أصبحت فزاعةً للزينة. وسيكون لهذه العملية الخاصة نتائج كبيرةً على الساحة الدولية إذا ما كتب لهذه العملية النجاح.
تأثير العملية على الشرق وسورية والمفاوضات النووية
على المستوى السوري ستشهد الأوضاع نتائج سلبية على الأزمة السورية وسنرى بعض البطء في العملية السياسية، وربما إذا تعالت أصوات أنقرة وموسكو نشهد تحركاتٍ عسكريةً من بعض الفصائل للضغط على روسيا في سورية، وهذا ما نستبعده على الأقلّ خلال هذه الفترة. انسحاب بعض القوات لا سيما القوات المقاتلة وطياري سلاح الجو في حميميم يمكن استغلاله إعلامياً من قبل الغرب لكن روسيا مدركة تماماً أهمية القاعدة البحرية المتوسطية السورية في الحرب ومستقبل العمليات فيما لو حدث تغيّر في العمليات ودخل لاعبون جدد على الساحة لكن على “إسرائيل” اتخاذ حساباتها جيداً فصديقها غاضب وممتعض وربما تغيّرت الأولويات ولم تعد المشاعر الصهيونية الداعمة لكييف تهمّ بوتين في سورية وهذا ما ستكشفه الأيام المقبلة. ولا بدّ لسورية في هذه الأيام من تعزيز علاقاتها الإقليمية وأهمها العلاقات السورية الإيرانية لتفادي النتائج الإقتصاديةَ والسياسية لهذه العملية على الساحة السورية.
الاتفاق النووي الإيراني
من أشدّ المتأثرين بهذه الحرب ذلك لأنّ الذهن الأوروبي والرأي العام مشغولٌ تماماً بأوكرانيا، لكن أميركا وحلفاءها يرون في الاتفاق فرصةً ذهبية لتعويض النفط والغاز والاستفادة من نتائج الاتفاق النووي بهذا الإطار. وإغلاق صفحة الاتفاق النووي وطيها إلى الأبد بلا خوف من امتلاك إيران لسلاح نووي والاتفاق آتٍ آتٍ والسبب تمسك الإيراني بموقفه الثابت وعدم تنازله عن أسس الاتفاق فستوصله لاتفاق شامل ومنصف طويل الأمد يحمي مستقبل ايران ويدخلها ملاعب الكبار رغم الهجمة الإعلامية التي باتت مكشوفة ومعروفة الأهداف…