بعد مرسوم فرض شراء الطاقة بـ «الروبل» روسيا تقرّر بحزم… لا «نفط مقابل الغذاء»
} جبران طارق الأحمد
إذا عُدنا في التاريخ قليلاً إلى تسعينيات القرن الماضي، تحديداً ما بعد حرب الخليج الثانية، نرى كيف قرّرت الدول الكبرى معاقبة الشعب العراقي وتجويعه بعد غزو صدام حسين للكويت، ولكن مع ضمان استمرار تدفق النفط. كان القرار حينها إغلاق أيّ منفذ اقتصادي وقطع أيّ تعامل اقتصادي مع العراق، إلا في إطار «النفط مقابل الغذاء»، وهو برنامج الأمم المتحدة الصادر بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 986 لعام 1995، وبموجب البرنامج سُمِح للعراق بتصدير جزء مُحدَّد من نفطه ليستفيد من عائداته في شراء الاحتياجات الإنسانية لمواطنيه، بعد فرض عقوبات اقتصادية عليه.
كانت النتيجة تجويع العراقيين وإفقارهم لأكثر من عشر سنوات انتهت باستنزاف قوة العراق، إلى أن قرّرت الولايات المتحدة الأميركية غزو هذا البلد الذي أنهكه الحصار، مستخدمة لذلك ذريعة كاذبة. وتلت الغزو إجراءات أميركية نهبت بموجبها الثروات العراقية وحولتها إلى شركاتها القابضة، مستعينة بثلة من الفاسدين زعماء الطوائف، وكانت الضربة القاصمة للعراق بدستور طائفي يمحو أيّ أمل بقيام الدولة.
قد يُعيد التاريخ نفسه اليوم بحالة مشابهة، عندما استفزت الدولة نفسها، أيّ الولايات المتحدة، روسيا في أوكرانيا وألقت برئيسها (المهرّج السابق) إلى مخالب الدبّ الروسي، عندما طلبت أوكرانيا الانضمام إلى حلف «الناتو»، الأمر الذي يجعل الصواريخ النووية الغربية في عمق المدن الروسية وعلى حدود روسيا الاستراتيجية، ما دفع بالقوات الروسية إلى التدخل العسكري في أوكرانيا بعد التحذير مراراً وتكراراً واستفزاز القيادة الأوكرانية لروسيا بقصف إقليم دونباس وقتل المدنيين فيه، وهو المنفصل منذ 2014 بتصويت سكانه، فرأينا السلاح الغربي البليد والذي ظنّوا أنهم قادرون على فرضه على جميع الدول وهو تجويعها حتى ترضخ، إذ بدأوا بإجراءات تجميد الأموال الروسية في الخارج والمقاطعة الاقتصادية ووقف نشاط الشركات العالمية في السوق الروسية، مع عدم فرض العقوبات على النفط والغاز الروسيين لحاجة أوروبا الشديدة إلى الغاز الروسي الذي يصل إليها عبر الأنابيب بكلفة أقلّ بكثير من كلفة الغاز المُسال، ما يؤمّن الاستقرار الأوروبي والإنتاج بأسعار تنافسية.
كان الغرب على موعد مع مفاجأتين روسيّتين، أولها التكتل الواسع مع عدد من الدول مثل الصين والهند والسعودية والإمارات، رفضاً لسياسة القمع الغربية للدول ومحاولات الهيمنة على العالم، أما الثانية فجاءت من خلال مرسوم وقّعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفرض بموجبه على الدول «غير الصديقة» شراء الغاز بالروبل الروسي، وقد سدّد بوتين بذلك ضربة قاسية للاستراتيجية الغربية التي جعلت المنفذ الاقتصادي الوحيد لروسيا هو بيع النفط والغاز الذي هو حاجة ماسة لأوروبا لضمان استقرار سوق الطاقة العالمية وعدم ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، فضلاً عن أنّ الأسعار الحالية هي أساساً مرتفعة، ولأنّ أوروبا لا تستطيع قطع الاعتماد على الغاز الروسي نهائياً.
وبموجب المرسوم الروسي فإنّ على «الدول غير الصديقة»، كما أسماها الرئيس بوتين، الراغبة بشراء النفط والغاز الروسيين فتح حسابات في البنوك الروسية لشراء الروبل، وهي خطوة ستجبر هذه الدول على إعادة روسيا إلى نظام «سويفت» ورفع العقوبات عن البنوك الروسية مضطرةً، وإلا ستكون العواقب وخيمة، خاصةً على أوروبا التي ورَّطتها الإدارة الأميركية في هذه المواجهة الاستراتيجية، وهي لا تستطيع فكّ الاعتماد على الغاز الروسي لا كمّاً ولا سعراً، وإلا ستواجه أوروبا أزمة اقتصادية هائلة تُذهِب الرخاء الاقتصادي بشكل كلي وتدفع بها نحو التقشف القاسي والغلاء الفاحش للمنتجات الأوروبية المختلفة، مقارنة بنظائرها في الدول المكتفية نفطياً أو قليلة الكلف الإنتاجية مثل الصين والهند والتي هي في حلف وثيق مع روسيا.
فهل تستفيق أوروبا، رأس حربة هذا الهجوم الانتحاري، قبل أن يصبح ثلثا الخنجر الذي تطعن به روسيا في قلب اقتصادها وأمنها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي؟