بين «شرق أوسط جديد»… و»شرق أوراسي جديد»!
} فاديا مطر
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتصلب مرحلة الحرب الباردة أكثر وبشكل استراتيجي، تعمل واشنطن على أرضية الصعود كقطب أوحد في العالم مع تسطيح القوى العالمية الكبرى أمام تواجدها، لكن تلك المرحلة كشفت جزءاً من العجز في الفكر الأميركي الاستراتيجي بحجم بات كافياً ليطيح بالكثير من تلك الملفات الاستراتيجية، حيث بحثت الولايات المتحدة وشركاؤها الأطلسيون عن ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كمرحلة متقدمة من الصراع الجيوسياسي في العالم، لكن المتغيّرات ما بعد العام 2000 كانت أيضاً مصفاة أخرى لذلك التقدّم، فما بعد حرب العام 2006 على لبنان كان التقارب الأميركي الكثيف مع الدول الإقليمية التي لم تنتهج الأطلسية بمثابة ورقة متقدمة في قيادة ما سمته الوزيرة كونداليزا رايس «الشرق الأوسط الجديد»، حيث الهدف الأقرب لواشنطن بمعسكرها كان الضخ العسكري والسياسي على منطقة تتمتع فيها موسكو وإيران والصين بعلاقات كبرى، وكان المأمول من ذلك هو تدعيم قدرة القطب الواحد في حماية الحلفاء وأولهم الكيان الصهيوني كحقيقة مفروضة ترزح تحتها باقي القوى العالمية لعقود طويلة، إلا أنّ المتغيّرات التي جاءت ما بعد الحرب على سورية أرخت أولى ظلال أفول ذلك القطب الأوحد، وبدأت ملامح تغيّرات وجه النظام العالمي بعكس صورة القدرة الحقيقية لشكل الصراع والتدخلات الأميركية، وقراءة الحلفاء لها…
فقد كان الدخول الروسي إلى الساحة السورية الإقليمية أولى محطات كسر عظم القطب الواحد، وبعدها بدأت شراكات موسكو تتقسى مع فقدان بنك الرغبات الأميركية في فرض السيطرة في الإقليم العربي كما حدث في الحرب على العراق واليمن وسورية ومجمل محور المقاومة الذي لم ينكفئ تحت قطبية الولايات المتحدة، ما كان يترتب لشرق أوسط جديد بدت جذوره متورّطة كفاية في الحوض الأوراسي خصوصاً بعد قيادة روسيا لعملية عسكرية خاصة لتحرير منطقة دونباس، وهي عملية بالفكر الروسي وصلت إلى حدّ كونها قضية وجودية بعكس أوروبا والولايات المتحدة، فقد أوضحت تلك العملية مجدّداً إفلاس بنك الأهداف الاستراتيجي لواشنطن من رصيده الحقيقي في تحجيم قدرة موسكو وحلفائها وكبح العقلية الروسية في حماية الأمن القومي في المنطقة الأوراسية التي امتدت اليد الأميركية لها منذ العام 1997 حتى الآن في خمس توسعات للناتو، لكن المعتقد الغربي بإمكانية السيطرة على العالم بات فكرة وهمية ولا تعكس رؤية استراتيجية لمعسكر بهذا الحجم.
فـ بإعتراف الصحافة الغربية ولو باطناً، فإنّ النظام العالمي الحالي لن يبقى عل حاله في المرحلة المقبلة، وبرأيهم أنّ «ضامنيه» الغربيين قد عرّضوه للخطر، وهو منطلق جديد للعلاقات الدولية بكلّ مجالاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية وفقدان للكثير من الخيوط الغربية في ربط الشرقين الأوسط والأوروبي ببعضهما بعضاً، فلماذا سعت واشنطن نحو هذا الانقسام العالمي في شكله غير التقليدي؟
هنا يكمن المُراد من كلا الشرقين، وهنا تكمن الغاية الأميركية في جعل الطلقة الأولى في العملية الروسية بمثابة نافذة على صراع أكبر من شرق أوروبا والشرق الأوسط، حيث كان الخروج الأميركي من أفغانستان هو حجر الهدم الأكبر في القدرة الأميركية مع أجنحة الناتو على قيادة صراعات أخرى دولية، نسبة إلى ما تحاول واشنطن بقيادة بايدن توتيره في بقع أخرى ساخنة مما يمثل ضربة قاسية في ظهر المعسكر الأطلسي برمته، فمن شبه الجزيرة الكورية إلى بحر الصين الجنوبي معادلة أخرى في جبهة أكبر فيما لو اشتعلت مضافة للصراع في شرق أوروبا والشرق الأوسط، والإرادة السياسية الحالية لدى موسكو وبكين بدأت تقرأ بدقة خطط «القطب الواحد» وما يمكن أن يكون في الحسابات الأميركية من كبش فداء لكلّ تلك الساحات، فقد بات المتورّط الأكبر في خرائط الصراع العالمية هو أوروبا، وبات تاريخ 24 شباط المنصرم مختلفاً عما قبله إلى حدّ فاصل في مسارح الصراع الأورو غربي بدءاً من أوكرانيا وليس نهاية في حرب الخلجان والبحور والمضائق، حيث بدأ الفشل الأميركي في الوفاء بالوعود تجاه الحلفاء الأوروبيين والخليجيين واضحاً، وباتت محاولة إغراق روسيا في وحلّ أوكرانيا معادلة عُكست نتائج حتى الآن، وهو ما ينطبق على الاتفاق النووي مع إيران حتى اللحظة، فمنطق الدولة العميقة لا ينطبق على الولايات المتحدة الأميركية فقط، بل قد غرق الفكر المأخوذ من عقلية الدولة العميقة في واشنطن بقلب اجتياح الطابور الخامس على مجمل هيكلية الدولة، وهو بعكس ما عملته روسيا في تسعينيات القرن المنصرم وما تلى من تطهير للخلايا الليبرالية ولمساحات كبيرة في مرحلة البيريسترويكا وتدعيم القوة العملية في بناء الدولة، ومن هنا بدأت أدوات التأثير الجديدة في السياسة الداخلية تبني أسس الدولة العميقة الروسية، فعلى واشنطن والأوروبيين قراءة مرحلة ما بعد كييف والتعامل مع تداعياتها التي بدأت تنهش أوروبا في القاعدة الشعبوية والاقتصاد المركزي، وقراءة العلاقة جيداً ما بين حرب القطعة النقدية وآلة الحرب، فقد تتيح مرحلة متغيّرات حرب الشرقيين إلى الوصول لنظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب وهي مرحلة تنبئ بتصاعد شرق آسيا للواجهة إذا ما فقدت واشنطن قطبيتها كحقيقة واقعية وتقدم جملة من حلفائها للعب دور «القمامين» في مرحلة لاحقة خصوصاً بعد عدم الرغبة الأميركية في الدخول عسكرياً الى أوكرانيا، وهي غاية في باطنها تعزز واشنطن دور حلفائها ليكونوا سوق للمنتجات العسكرية والتي ترغب واشنطن في صرفها كورقة بديلة عن الركود الاقتصادي الذي وقعت به بعد مروحة العقوبات على روسيا، فهي بكلا الاتجاهين تطيل أمد الصراع الدولي ولو على حساب الشركاء الأوروبيين وقدرتهم المستقبلية على الوقوف على أرضية راسخة أمام المتغيّرات الدولية، فالحرب الهجينة التي تقودها واشنطن وصلت لمشارف حرب خطرة جداً بحسب وصف كل المراقبين العسكريين، وفي أيدي «النازيين الجدد» الأوكرانيين الذين سقطوا حت الآن في حرب الاستنزاف والاستجداء معاً، وهي من الغايات الأميركية المبطنة لضمان التبعية الأوروبية في الدعم والاصطفاف في ساحة كييف التي لم تمنحها الدول الغربية عضوية الناتو، ولم تكن قادرة على سند النازيين في حرب تخطو خطواتها بدقة متناهية حتى في المجال الاقتصادي المنعكس على أوروبا، فصحيفة «الإندنبندنت» البريطانية قالت نقلاً عن الجنرال المتقاعد جوناثان شو بأنّ بريطانيا خصوصاً ستواجه أوقاتاً عصيبة بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، حيث تستشعر الدول الأوروبية الخطر المحدق في عقوباتها الاقتصادية والسياسية على بيتها الداخلي المبعثر أصلاً، وهي نتيجة حتمية تجرّها إليها واشنطن في سياق المتغيّرات الآتية، على وقع شرق آخر بدأت واشنطن بالقلق منه وهو ما عكسته ترتيبات الحوار الأمني الاستراتيجي متعدد الأطراف الذي تنظمه الولايات المتحدة الأميركية واليابان وأستراليا والهند، والذي يمكن توسعته ليشمل كوريا الجنوبية في سياق ما سمته كبح جماح الصين، بحسب ما أوردته صحيفة «إنترناشيونال أنتراست» في 7 نيسان الحالي، فهي قراءة قلقة أخرى مضافة للقلق الغربي من التخوّف من تجربة الشرق الأوروبي الذي سبقه شرق أوسط فاشل بكلّ المعايير، لتعود واشنطن للعب على لعبة «الخبائث» في مربعاتها الأولى.