كفى بيعاً للأوهام والوعود في الموسم الانتخابي…
علي بدر الدين
يطغى مشهد إعلان اللوائح الانتخابية، على ما عداه من ملفات وأزمات ومشكلات اقتصادية ومالية ومعيشية متفاقمة وضاغطة، ومثقلة بالمعاناة والآلام والآمال المعلقة والمؤجلة والمعدومة أساساً، قبل الانتخابات النيابية وخلالها وبعدها، إذا ما حصلت في موعدها المحدّد في الخامس عشر من شهر أيار المقبل، لأنّ أشهراً قليلة تفصلها عن موعد انطلاق قطار «معركة» رئاسة الجمهورية المرهون أساساً، بحصول الانتخابات النيابية مصيراً ومساراً ونتائج، والتي على ضوئها يُبنى المقتضى» ويتحدّد مصير الاستحقاق الرئاسي، ويعرف سلفاً، وبنسبة كبيرة اسم رئيس الجمهورية الجديد وهويته، طبعاً بالتفاهم والتوافق مع دول خارجية إقليمية ودولية، كما تجري العادة مع أيّ استحقاق انتخابي دستوري، بعد أن ثَبُت بـ «الوجه» السياسي والشرعي وبالممارسة، أنّ قرار لبنان مرتهن منذ عقود لهذا الخارج، والأمثلة كثيرة وحاضرة ومعلومة.
احتفالات إعلان اللوائح الانتخابية في غير منطقة، لم تفاجئ أحدا، بحشودها «الجماهيرية» المشحونة بالطاقة الطائفية والمذهبية والغرائزية والعصبيات، والملقّحة بـ «دوز» عالٍ من حقن التخدير العامة أو الموضعية أو المؤقتة، لزوم التعبئة الآنية لانتخابات اليوم الواحد، و»غداً يوم آخر» وكلّ يذهب في سبيله وإلى حياته المملة، وإلى فقره وجوعه ووجعه، بعد أن «أدى قسطه للعلى» وقدّم ولاءه و»صوته» في صندوقة الاقتراع، لمن أشبعه فقراً وذلاً وبطالة وحرماناً، والسعادة تغمر وجهه، لأنه اختار من كان سبباً مباشراً في معاناته وتعاسته وتهجيره وحرمانه حتى من رغيف خبزه المقدّس على» مآدب» الفقراء.
ما يثير الدهشة والريبة في آن، أنّ هذه الحشود، التي على ما يبدو، أنها لا تتقن سوى التصفيق و»الهوبرة» ورفع الرايات والشعارات الخاصة، والوقوف «احتراماً وإجلالاً» للمرشح أيّ مرشح قديم أو جديد، عندما «يشقّ» صفوفها بصعوبة، ويُحمَل على الأكتاف لتأمين طريق وصوله الى منصّة الكلام، وقد أخذته العنجهية وتحوّل بلحظة «غياب عقل» المسمّرين منذ ساعات على كراسيهم إلى «شي مهمّ» وهو يرى بعينيه ما لم يره من قبل أو يتوقعه، وكأنه مقبل من عالم ملائكي، وعلى حصان أبيض نظيف، حيث تنفرج أساريرهم، وتعلو أصواتهم وترتفع وتيرة «زقفاتهم» وهو يقف «بفخر وشموخ»، يوزع ابتساماته المتلوّنة، ونظرات السخرية والاستهزاء، يميناً ويساراً ووسطاً، إلى الذين تشرئبّ رؤوسهم وعيونهم شاخصة إليه، وكأنها لم تره من قبل ولم تعرف اسمه، ولا تصدّق نفسها أنها في «حضرة» كبير من عمالقة السياسة والثقافة والنظافة والوطنية، مع أنها تعرفه أباً عن جدّ، وحسباً ونسباً وعملاً ومن أين وكيف جمع ماله، ولكن «المعركة» الانتخابية تستوجب طمس الحقائق والوقائع والمعالم وكلّ ما سبق، وليس من الضرورة تذكّر ماضيه وسيئاته وسلبياته، مع أنّ جمهوره وبيئاته والقريب والبعيد يعرفون «عن ظهر قلب» أنه وأمثاله ومن كان قبله ومعه في السلطة والحكومة ومجلس النواب منذ ثلاثة عقود ونيّف، هم من أوصلهم إلى حال الفقر والجوع والحرمان والإهمال والقهر وسرقة المال العام والخاص وتهريبه إلى الخارج، وهم أصالة أو وكالة، من جوّع أطفالهم وتاجر واحتكر الدواء ورفع الأسعار، وتلاعب بسعر صرف الدولار حتى بلغت عملته الوطنية الحضيض، وهم من عطّل الكهرباء، ومن يتاجر ويحتكر القمح والطحين و»قمر» الفقراء، ويهدّدهم يومياً بلقمة عيشهم.
هذا المرشح المحظوظ جداً، أمام هذا الدلال الذي لم يشهده حتى من عائلته، كيف لا تأخذه «العزة والفخر» بنفسه، وكأنه في حلم قد يترجم إلى حقيقة، ما دام هذا الجمهور ما زال يحلم ويراهن عليه وعلى منظومة السياسية الفاسدة والمزوّرة والسارقة والمرتهنة لمصالحها والخارج، لانتشاله من وحول طائفية ومذهبية طمرته فيها، وطمست معالمه ومحت إنسانيته، ولا يزال مصراً على التمسك بها وانتخابها والتجديد لها، ربما لأنه أدرك، أنّ البدائل غير متوفرة، وأنّ التغيير والإنقاذ ليس بمتناول أحد إن كان في السلطة أو خارجها، ولن يتحقق على أيدي من رفعوا شعاراتها وقادوا وشاركوا في «الثورة» ضدّ المنظومة السياسية، أو الانتفاضة بوجهها، ومعظمهم يتحدث بذات اللغة والخطاب الطائفي والسياسي وانْ كان منمّقاً و»حضارياً»، وأقلّ إثارة وضجيجاً، وهو تبرير غير واقعي ولا يعوّل عليه، لأنّ وسائل العمل والتغيير كثيرة ومتنوعة، لكنها تحتاج إلى إرادة وقرار وفعل اقتناع وشجاعة وجرأة غير متوفرة حالياً، وتحتاج إلى وقت مفعم بالأمل والعمل، للخروج ولو ببطء من حال الانغلاق على مستوى الطائفة والمذهب وولي النعمة، ولمّ شمل من يصرّ ويسعى فعلاً الى الإصلاح والإنقاذ، ليس على طريقة ما هو حاصل اليوم، حيث الأنانية وحب الذات والاستعجال لدخول جنة المجلس النيابي شكلت القوة القاهرة القاتلة لكلّ أمل وحلم، مع أن لا شيء محسوماً ولا معلوماً بشكل مسبق من سيخرق ومن سيفوز بمقعد نيابي في هذه الدائرة أو تلك، خاصة ما يطلق على تسميتهم بالمعارضين والتغييريين و»ثوار» ١٧ تشرين وغيرها من المسميات والألقاب والعناوين، الذين وسّعوا مراوح ترشيحاتهم ولوائحهم و»شتتوا أصواتهم» وقد يخرجون من «مولد الانتخابات بلا حمص» إلاّ قليلاً.
عوامل ومعطيات تؤشّر بوضوح، إلى أنّ قديم مجلس النواب سيبقى على ما يبدو على حاله، كنهج وأسماءٍ ووجوهٍ، والكتل النيابية ايضاً، وإنْ طال بعضها، زيادات أو نقصان في الأعداد والأوزان.
يعني أنّ الأفق السياسي القريب والبعيد في لبنان، لا يبشّر بأيّ أمل في تقويض أسس الفساد والمحاصصة والنهب والاحتكار والاستزلام والارتهان للمصالح، وعلى المنظومة السياسية والمرشحين من كلّ الألوان السياسية والحزبية والطائفية والمذهبية الذين «ملأوا الدنيا وشغلوا الناس» وقف بيع الشعارات والأوهام والوعود الفارغة والكاذبة في سوق عكاظ الموسم الانتخابي، ويتركوا «الخيار» للناخبين الذين يملكون «القرار». وكما يُقال، «يا حكام يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد»؟